الانقلابات العسكرية وهيمنة المفاهيم الحزبية في العلاقات الدولية

الوحدة والانفصال والوجود السوري في لبنان في مذكرات دبلوماسي سوري

TT

يرى أحمد عبد الكريم، السفير السوري السابق في عدة بلدان أوروبية، في يومياته التي صدرت حديثاً، أن ما يشل نشاط الدبلوماسيين العرب في الخارج،

هو عدم تنسيق مواقفهم حيال البلد الذي يعملون فيه، رغم شعارات التضامن العربي

لأننا لا نزال نعيش نتائج حرب حزيران/يونيو 1967، وتداعيات حرب أكتوبر 1973، وآثار حرب لبنان، كان ليوميات أحمد عبد الكريم السفير السوري السابق في بلغراد وباريس وبرن قيمة مضاعفة لقراءة التاريخ من خلال شهادات الذين عايشوا المرحلة وساهموا من موقعهم في صنعه.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية 1945، انسحب آخر جندي فرنسي من الأراضي السورية في 17/4/1946، فوجدت سورية نفسها وبقية الدول العربية أمام تحدٍ خطير في هذا الوقت المبكر. وكان قرار تقسيم فلسطين لدولتين يهودية وفلسطينية إعلان حرب اضطر العرب إلى دخولها وغالبية أقطارهم تحت الاحتلال الأجنبي. وانهزمت الدول العربية لعدم قراءتها الصحيحة للنظام العالمي الجديد، لذلك اتجهت الجماهير العربية الناقمة ضد أنظمتها واتهمتها بالتقصير، وتوالت الانقلابات العسكرية.

ففي صباح 30/3/1949 أعلن البلاغ رقم واحد لانقلاب حسني الزعيم واستيلاء الجيش على السلطة. كان هذا الانقلاب بداية لمرحلة جديدة وانعطافاً في سير الحركة السياسية، وسابقة تعدت آثارها حدود سورية. فاستمرأ الجيش السلطة واعتاد الخروج من الثكنات كصاحب قرار مستفيد ولم يعد من السهل انتزاع هذه الامتيازات من يده.

وتوالت الانقلابات من انقلاب الحناوي، والشيشكلي، حتى انقلاب 1954 الذي كان انقلاباً على الانقلابات العسكرية وأعاد السلطة إلى الشرعية المدنية المنتخبة في العام 1949، وبدأت مرحلة ديمقراطية استطاعت سورية خلالها خوض معركة التصدي لحلف بغداد، وقدمت الدعم للثورة الجزائرية، وأقامت وحدة اندماجية مع مصر لم تدم أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة وانهارت بسهولة في 28/9/1961.

تشكلت في مرحلة الانفصال ثلاثة تيارات: الأول يريد الحفاظ على العهد المائع الذي خلفه الانفصال. والثاني ناصري الهوى ينادي بالعودة إلى الوحدة. والثالث تيار حزب البعث العربي الاشتراكي المدعوم من نسبة عالية في القوات المسلحة والأوساط العمالية والفلاحية بالإضافة إلى جماهير الحزب نفسه، مما مكّنه من القيام بما سمي «ثورة 8 آذار/مارس». لكن تبين أن الذين قاموا بالثورة لم يكونوا متفقين على الأهداف وطبيعة النظام المطلوب. فتجزأت السلطة، وتعددت مراكز القرار. وكان الوضع الداخلي والعلاقات مع الخارج في أسوأ مرحلة حينما قامت إسرائيل بعدوان 5/6/1967. ووجهت ضربة قاتلة للقوات السورية واحتلت مرتفعات الجولان، بعد أن انهارت الجبهة المصرية وسقطت الضفة الغربية والقدس.

وجد الكثير من العسكريين أنفسهم في حمأة السياسة نتيجة للمتغيرات. فالمؤلف الذي كان ضابطاً في الجيش، وجد نفسه وزيراً، كما انتخب نائباً عن درعا في العام 1962 واشترك في حكومة بشير العظمة. واعتقل إثر ثورة 8 آذار 1963، وفرضت عليه الإقامة الجبرية، حتى استدعي في مطلع العام 1969 ليعمل في الحقل الديبلوماسي سفيراً لسورية في بلغراد.

واجهت المؤلف أحمد عبد الكريم في بداية حياته الديبلوماسية آثار هزيمة 1967 التي قسّمت العرب إلى ثلاثة معسكرات: الدول التي تبنت الماركسية كاليمن الجنوبي والصومال، والدول المسماة تقدمية، التي تبنت سياسة عدم الانحياز كمصر وسورية والجزائر والعراق، والدول المعتدلة التي تسير على النظام الرأسمالي. ونشبت صراعات ثنائية عدة كالأزمة السورية الأردنية، والأزمة المصرية ـ السعودية بسبب حرب اليمن، والصراع الدامي بين المنظمات الفلسطينية في الأردن ولبنان.

وعلى الرغم من انعقاد سلسلة من مؤتمرات القمة الخرطوم 1967، والرباط 1969، والمصالحة بين عرفات والملك حسين 1970، إلاّ أن النار ظلت تحت الرماد وكانت وفاة عبد الناصر 1970 ضربة حاسمة تبلورت بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وانتهت بزيارة السادات إلى القدس عام 1977، وبإقامة صلح منفرد مع إسرائيل وإخراج مصر من الصف العربي وما تلا ذلك من انهيارات. هذه الأحداث يدرجها المؤلف ضمن سياقات الاحداث الدولية الهامة كثورة الطلاب في فرنسا، والغزو العسكري السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا، وتدهور العلاقات بين السوفيات والصين، وانفتاح ألمانيا على الكتلة الشرقية، وصعود اليابان بين الدول الصناعية الغنية، واستمرار الحرب الفيتنامية. لقد ضاقت الأطر التي حددتها إتفاقية «يالطا» فظهرت التصدعات والخلافات في المعسكرين الشرقي والغربي. ففي المعسكر الغربي أخذت بعض الدول تضيق ذرعاً بهيمنة الولايات المتحدة، فانسحبت فرنسا من حلف الأطلسي وقررت بناء قوة نووية وطنية. وفي المعسكر الشرقي، وصلت العلاقات بين الصين والاتحاد السوفياتي حد القطيعة واستطاعت رومانيا وألبانيا التمرد، واضطرت موسكو لاستخدام القوة لإخماد المعارضة العلنية في هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا.

اكتشف المؤلف في سنواته الديبلوماسية الأولى أن هناك زواجاً غير شرعي، بين القوتين العظميين. فالعدوان الإسرائيلي على البلدان العربية مرّر التدخل العسكري السوفياتي في تشيكوسلوفاكيا. وهو يعتقد «أن القوتين الأعظم وضعتا أيديهما على القضية الفلسطينية ولا يريدان الحل السلمي العادل لأن استمرار الصراع يخدم مصالحهما».

في العام 1971 نقل المؤلف من بلغراد إلى باريس. وقد كانت الديبلوماسية السورية السابقة في باريس تنبع من مفاهيم حزبية، وتركز على العلاقات مع الطلاب السوريين والعرب والأحزاب اليسارية، خاصة الحزب الشيوعي الفرنسي واتحاد الشغيلة. فعمل على تنشيط هذه العلاقات في جميع الميادين وتطويرها لتصبح من ثوابت العلاقات السورية الدولية.

ولمس خلال لقاءاته أن ما يشل نشاط الديبلوماسيين العرب في الخارج، هو عدم تنسيق مواقفهم حيال البلد الذي يعملون فيه، رغم شعارات التضامن العربي. فالعرب في نظر الكثيرين في الخارج، تنقصهم الصدقية، وتعودوا الهزائم، وفي كل مرة يقلبون هزائمهم إلى انتصار فيزداد الآخرون سخرية منهم. والذي يزيد تشويه صورة العرب، هو قسوة قسم من حكامهم على شعوبهم وفظاعة أساليب القمع والارهاب التي يستخدمونها، واعتماد الانقلابات العسكرية والاغتيالات للتخلص من المعارضة. وأخطر من ذلك قناعات رجال السياسة في الغرب أن بعض الحكام العرب يجدون في إسرائيل مظلة تقيهم من أشقائهم. في العام 1973 أصر «كيسينجر» على وضع قضية الشرق الأوسط بين القضايا المؤجلة، والتركيز على حل المشكلة الفيتنامية. وأمام ركود قضية الشرق الأوسط لم يبق أمام العرب سوى تحريك المسألة بأنفسهم. فنشبت حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 التي أثبتت هشاشة أسطورة الجيش الإسرائيلي. وأصبح على الإسرائيليين التخلص من عقدة التفوق، و«أمست الحاجة ملحة، كما قال بن غوريون، إلى حرب لا غالب فيها ولا مغلوب، لكي نستطيع إقامة سلام عادل ودائم مع جيراننا». تأكد بعد قبول مصر قرار وقف إطلاق النار وتوقيع اتفاقية فصل القوات، وأن هدف السادات من الحرب تحريك المشكلة والشروع بالمفاوضات. لذلك لم يتم التقيد بوقف إطلاق النار على الجبهة السورية، وبدأت حرب جديدة أطلق عليها اسم «حرب الاستنزاف» هدفها تأكيد صمود الجبهة السورية بعد خروج مصر من المعركة. فتفرغت إسرائيل كلياً للضغط على الجبهة السورية، وصعدت غاراتها لإخضاع سورية وإجبارها على إنهاء حرب الاستنزاف مما يدل على مدى الخسائر التي تكبدتها في الحرب.

ومع تفاقم الأزمة اللبنانية في العام 1975، أكدت فرنسا للسفير السوري السابق أنها ترغب بالتشاور والتعاون مع سورية حول الأزمة اللبنانية تجنباً لتحول النزاع الداخلي إلى حرب أهلية. وقد عملت على ذلك لكن الانقسام العربي حول معالجة النزاع العربي/الإسرائيلي فاقم الأزمة. فعارضت أميركا ومصر المبادرة السورية خوفاً من أن تشكل انتصاراً لسورية والمقاومة الفلسطينية ومقدمة لانهيار اتفاقية سيناء. فعملت مصر على تعريب المشكلة اللبنانية وهذا ما حوَّل لبنان إلى ساحة صراع بين العرب. وحسب المؤلف، فإن العام 1976 يعتبر عام الأزمة اللبنانية التي استأثرت بمعظم نشاط البعثات السورية لا سيما في باريس. فأيدت الخارجية الفرنسية بعد التشاور مع الولايات المتحدة تدخل القوات السورية في لبنان، وصرح كيسنجر بأن التدخل العسكري السوري في لبنان لا يشكل تهديداً لإسرائيل، كما ان الصحافة الفرنسية رأت أن التدخل السوري أنقذ جزءاً كبيراً من الطائفة المسيحية من الإبادة الجسدية.