شعارات عام من التظاهرات تبوح بخفايا لبنان بأكمله

ولدت عفوية وأصبحت فبركة لغويين حاذقين

TT

تجمّع اللبنانيون يوم أمس بمناسبة مرور سنة على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، سنة عجنت خلالها اللغة وقطّعت وأعيد ترميمها، من خلال شعارات أطلقها المتظاهرون، بدت اشبه بعالم جديد من التراكيب اللفظية والمعاني. هذه الورشة بدأت عفوية لكنها لم تستمر كذلك، فالجميع أدرك أهمية اللعبة ودخل على خط «الشعار» و«الهتاف»، لنرى ونسمع معركة حقيقية أدواتها «الكلمات» وأهدافها تجاوزت حدود وطن.

الزلزال الذي ضرب لبنان باستشهاد الرئيس رفيق الحريري لم تقتصر شظاياه على الساحة السياسية والاصطفافات الطائفية فحسب، اللغة أيضاً وبما تشكله من مخزون ثقافي للشرائح الاجتماعية كافة، بدت مسرحاً نابضاً لمخلفات «الحدث/الزلزال» حتى قيل ان «انتفاضة لغوية» شهدتها ساحات بيروت، بمختلف أطيافها.

الشعارات والشعارات المضادة، الهتافات ونقيضها، هل هي طفرة عفوية شعبية عابرة، أم أنها مطبوخة على نار سياسيةـ حزبية عالية؟ وهل تجانست هذه الشعارات، شكلاً ومضموناً، مع الخطاب السياسي السائد في الساحتين المتنافستين (8 آذار و 14 آذار) وأي صورة اجتماعية عكستها هذه التنوعات اللغوية، ضمن المجتمع الواحد؟

هذه الظاهرة اللغوية ـ الاجتماعية، شغلت الباحث الالسني نادر سراج فانكب على رصد الشعارات والهتافات التي تمخضت عنها الاعتصامات والتظاهرات، من كل الأفرقاء الذين شاركوا في الحراك الشعبي، فكتب مدونة بما يقارب 900 شعار وهتاف، يدرس من خلالها مزاج وعقلية الخطاب الاجتماعي ـ السياسي.

لم تقتصر الشعارات على الفصحى، بل تسربت إليها العامية، ودخلتها لغات أجنبية كالفرنسية والإنجليزية. وبرزت الكتابات الجدارية في الطرقات المؤدية إلى ساحة الحرية، التي يسميها نادر سراج كتابات وجدانية، اتخذت شكل gravité، وهي الكتابة الشبابية الشائعة في محطات المترو في العالم.

الشعار هو تعبير دعائي إعلامي مختصر، يتلاءم مع النهج السياسي وتوجهات الجماهير المناصرة. في هذا السياق يستذكر سراج الشعارات الطلابية في الستينات والسبعينات التي كانت ذات خلفية شعرية زجلية. أما في تظاهرات 8 و14 آذار، فقد انقلبت الصورة الكلاسيكية للهتّاف التقليدي. الجمهور المتظاهر كان حاشداً في الساحتين المتقابلتين، سياسياً وجغرافياً. والمتظاهرون هم اناس عاديون: ربّات بيوت، أطفال، شباب، كلهم خرجوا إلى الشارع، على غير عادة. فهم ليسوا من احتياطي الأحزاب، بل الأكثرية الصامتة. انقلبت الأدوار، في رأي نادر سراج، ولم يعد الناس يتلقَّون الشعار السياسي بل عمدوا إلى كتابة شعاراتهم بأنفسهم. الفجيعة أحدثت انتفاضة لغوية في الشارع اللبناني، فخرج المتظاهرون ولم يتحرجوا من كتابة بعض ما كانوا يتندرون به في مجالسهم الخاصة.

تبدلت المرجعيات اللغوية، وطغت اهتمامات الشباب بوصفها مرجعيات بديلة: الانترنت، الأغاني، سوبر ستار... أخرجوها معهم الى ساحات التظاهر وأوجدوا من خلالها شعارات جديدة، لقد طلبوا الحقيقة بروح النكتة، الهمس، السخرية، الاستنكار، الخوف، التندر والقرف، كل هذه المشاعر صبَّت بشعارات معلنة.

يوافق الباحث الألسني هيثم قطب د. سراج في توصيف الظاهرة بالانتفاضة اللغوية، ويعتبر أن الميزة الإبداعية واللماحة لشعارات 14 آذار، جاءت متأثرة بالفرانكفونية التي يتمتع بها جيل الشباب في هذه الساحة. لم ينف قطب ديناميكية ابتكار الشعارات في ساحة 8 آذار، لكنه لاحظ أن التنظيم هنا موجه أكثر بحيث كانت الشعارات، رداً على طرف آخر، فهي ترفض الوصاية الاميركية وتنبه للخطر الاميركي الداهم المحدق بلبنان والمقاومة. شعارات تميزت باللعب على القافية، النبر والإيقاع والطابع الديني والقومية العربية.

جدير بالذكر أن شباب 8 آذار، اعتمدوا ايقاعات رنانة «الله، نصر الله والضاحية كلها» يرافقها ضربات على الصدور شبيهة بالندبة الحسينية وهي إن دلت على شيء، فان اجتماعها مع الإيقاع والنبر يشكّل قوةً نبضيةَ للشعار والهُتاف يعطيه بعداً ثورياً. فضلاً عن ان بعض الشعارات أتت كردّة فعل على حكم مسبق مثل: «من دمشق لبيروت شعب واحد ما بي موت». يرفض هذا الشعار الحكم المسبق من جماعة 14 آذار حول اتهام سورية، ويؤكد على الهوية العربية للبنان بالتصاقه بالجارة.

أما عن تكسير القوالب اللغوية فقد لاحظ سراج أن جمهور الشباب بدَّل مقاطع من جمل غنائية، واستعمل أمثالا شعبية مثل: من «حفر حفرةً لأخيه وقع فيها»، واستعملوا أقوالا دينية مع إدخال التعديلات مثل: «اغفر لهم يا أبتاه لأنهم يدرون ماذا يفعلون». لعب المتظاهرون على كلمة nominee وكلمة call، وبرزت شعارات استهلاكية وظفت «تاريخ الصنع» و«تاريخ الانتهاء» و«100%لبنانية». «أختي مسافرة وحَنَعمل حفلة»، هي في الأساس أغنية مصرية قديمة أصلها «أمي مسافرة وحنعمل حفلة»، فلعبوا على كلمة أختي وربطوها بـ «الشقيقة» سورية.

أكثَرَ المتظاهرون، لا سيما فريق 14 مارس، من استعمال أدوات سميولوجية مثل: العلم، خريطة لبنان، المكنسة، لوحة الجلاء، ساعة العبد، الكعك والبرازق، وتجدر الإشارة إلى أن هاتين الكلمتين تتضمنان دلالات محدودة، معروفة في سورية ولبنان، والمواطن العربي قد لا يفهم ما دلالة «الكعك» و«البرازق» في العلاقة السورية ـ اللبنانية. سراج ينتقد هذا النوع من الشعارات لأنه تجاوز النقد إلى التجريح والعنصرية.

كثر استخدام الشعارات باللغة الإنجليزية لا سيما من طلاب الجامعة اليسوعية الفرنكوفونية (Syria out now)، وهو ما يدلل، بالنسبة للباحث سراج، على رغبة في سرعة إيصال الرسالة، ومخاطبة الأمم المتحدة والرأي العام العالمي، وقد لاحظنا كثرة تكرار شعار (the truth) بالإنجليزية في حين ندر استخدام (vérité) بالفرنسية.

برز حوار الشعارات، بين متظاهري 8 آذار و14آذار حين استخدمت الفئة الأخيرة: «فاجأناكم مووو»، فجاء الجواب في الجهة المقابلة «ما فاجأتونا منوب». وفي حين تبنى فريق 8 آذار «الوفاء لسورية» باعتبارها بلداً عربياً شقيقاً، عمد فريق 14 آذار إلى تبني «الولاء للرئيس الحريري».

«الحقيقة» كانت الأبرز لكنها تعبير قانوني، ظرفي، يجمع الناس لفترة معينة، ثم يسقط بعد معرفة الحقيقة. أمّا «حرية، سيادة، استقلال»، فهي من الشعارات المستمرة. «الله نصر الله والضاحية كلها»، شعار أطلقه فريق 8 آذار وحين التقت «أمل» مع «حزب الله» في ساحة رياض الصلح، عدّل الشعار ليصبح «بري نصر الله والضاحية كلها»، وهنا برزت ليونة فرضتها معطيات زمنية ومكانية في آن.

الملاحظ أن شباب 8 آذار تمحورت شعاراتهم حول «أمريكا»، «الطُغمة الصهيونية»، فرنسا وغيرها. وكلمة «أمريكا» و«أمريكي» بتقديم الراء على الياء على الطريقة المصرية الناصرية (وهي غير مألوفة في لبنان)، يرى نادر سراج أن لها بُعدَين: الأول التأكيد على الخط العروبي للبنان وتناغمه مع الخط الناصري المقاوم، والثاني لغوي، لأن تقديم الراء على الياء يفيد في تقوية ايقاع اللفظة، فتأتي الكلمة أقوى في إيصال الرسالة، لا سيما أنها تستعمل في سياق آخر «أمريكا لسنا نهاب إلا من رب الأرباب»، يرافقها موسيقى حماسية وأناشيد تمزج بين الولاء للبنان والبعد الديني لأهداف الحزب.

العفوية والصناعة

للمرة الأولى في لبنان، ومن خلال شعارات دبّجت على مدار عام، تداخلت على هذا النحو اللافت مفردات معلوماتية وأخرى سياسية ودينية وإعلامية واعلانية، اختلطت بالأغاني والأمثال الشعبية في مزيج تعبيري صادق. جهد لغوي عفوي عبَّر عنه شعب فُجع بفقد زعيم، لذلك لجأ إلى مخزونه الكلامي وأخرج كل ما في جعبته. ولأنّ هول الفاجعة هو الذي ولّد كل هذا الفيض من الشعارات، يعتقد سراج أن وهجها سيخفت في الأيام القادمة، بفعل تطور الأحداث. «ثمة عناصر تفقد الشعار حيويته، ولا تبقى إلا الشعارات الكبرى التي تثبت أنها تستطيع مقاومة الزمن».

لكن بعض الشعارت المطروحة لم تكن لتتناغم مع الخطاب السياسي الذي يفترض انها في صفّه، فخطاب النائب بهية الحريري الشهير في «ساحة الحرية» لم يكن منسجماً تماماً مع اليافطات، يقول الباحث هيثم قطب: «قد تكون هناك جماعات غير موافقة على مجمل الخطاب لكنها لحظة فورية وتنتهي»، ويستطرد قائلاً إن شعارات 8 آذار بدت مبنية على نظرة آيديولوجية متينة. فهم مقتنعون بعقيدة معينة، ومطبخهم السياسي جيد، وذو دلالات معبرة.

لكن د. هيثم قطب المطلع جيداً على كواليس تحضيرات الاحتفال بالذكرى الأولى لرحيل الرئيس الحريري، ومرور سنة على 14 آذار، يعتبر أن الشعارات هذه المرة مطبوخة بطريقة ناضجة فيها إبداع وكثافة ونوعية. فقد تمت الاستعانة بالألسنيين والمختصّين لصياغة شعارات تتلاءم والمرحلة، خاصةً أن 14 آذار لم يعد كما كان، فعون انسحب، والبلد منقسم بين شيعي وغير شيعي، عوني وغير عوني، تضامُن القوات مع تيار المستقبل والدروز، هذه الأمور سترسم حدوداً أوضح للشعار. لذلك فإن الشعارات لا تركز على سورية بشكل أساسي، بل على الوضع الداخلي، وبفعل الابتعاد عن لحظة الفجيعة، فإنها تضرب على الوتر العاطفي لتذكر بإنجازات الحريري.

بعد شعار «استقلال 2005» أطلق تيار المستقبل شعاره الجديد «حرية 2006»، والهدف هذه المرة، رئيس الجمهورية والأجهزة الأمنية اللبنانية السورية، هكذا يقول سمير العشّي مسؤول العلاقات العامة في تيار المستقبل، ويضيف: قمنا بورشة حقيقية للاحتفاء بالذكرى ونحن ملتزمون خط الرئيس الشهيد وتوجهات الشيخ سعد، من هنا تم استنباط شعار التيار: «الوحدة الوطنية والحقيقة» كأساس لعملنا، و«أَمن، استقلال، حرية»، هو شعار مستجد فرضته الاغتيالات التي حصلت.

العشّي يقول «نتوجه إلى التيار الوطني الحر وحزب الله من خلال شعارات واضحة، هذه المرة، تدعو الطرفين إلى التحرر من العقلية التي تراهن على الأحلاف الخارجية الإقليمية أو المصالح الشخصية والانضواء تحت لواء الوطن».