عصام محفوظ.. هذا الكائن السياسي الهارب إلى الأدب

قرأ مسوداته يوسف الخال وبشّر أدونيس بولادة موهبة جديدة

TT

في الخامس من فبراير(شباط) الحالي، ودّع لبنان الشاعر والمسرحي والناقد عصام محفوظ، بدمع فياض، وألم كبير، ليس لأن محفوظا كاتب كبير ونقي فحسب، بل لأن هذا الأديب رسم بسيرته ضجيجاً وصمتاً، طوال نصف قرن، ما يشبه سيرة وطن جريح ومصدوم، ومع ذلك لا يستسلم تماماً ولا يثور بالقدر الكافي. بتوثباته وانكفاءاته، بأمله ويأسه الكبيرين، بدا عصام محفوظ للكثيرين وهو يرحل، وكأنه كل واحد منهم، أو هو قصتهم معاً.

في عام 1959، هبط عصام محفوظ من بلدة مرجعيون الجبلية الجنوبية، الى العاصمة بيروت، واقتحم مكتب مجلة «شعر» قائلاً لرئيس تحريرها يوسف الخال: انا عصام محفوظ. وقبل ان يسأله زعيم حركة الشعر الحديث عن الهدف من زيارته، قدم له باقة من قصائده، وقفل عائداً الى جنوبه، على حد وصف الخال للقائه الاول بمحفوظ.

قرأ راعي الشعر الحديث في لبنان القصائد الثلاث للشاعر الذي لم يتخط العشرين من العمر، فبشّر ادونيس وأنسي الحاج وشوقي ابي شقرا ومحمد الماغوط والآخرين، خلال احدى جلسات «خميس شعر»، بولادة موهبة جديدة. وسرعان ما ظهرت «العيون الباردة» و«موسيقى كئيبة» و«المقعدة»، في مجلة «شعر» عدد سبتمبر (ايلول) 1959، وظهر في ابياتها الحزن الذي رافق الشاعر طيلة سنوات عمره الـ67. في «العيون الباردة» يقول الشاعر، الذي مات عازباً، «لابنته»:

كفى يا ابنتي! اغلقي النافدة

على مهلٍ.. في عيون الحبيب

وفي وشوشات المساء الغريب

تمر الرياح.. تمر السنون

ويمضي النواح.. وتمضي الشجون

ولم تكن قصيدة «موسيقى كئيبة» اقل كآبة

والولد النحيل

يداعب الجروح في القميص

باصبع نحيل

والنار في العيون لا تموت

والمطر المنساب في سكوت

يبكي في زاوية الشباك

يبكي على زنبقة حمراء

في علبة مزروعة هناك

في موقد الاضواء

والسؤال الآن: هل دخل عصام محفوظ عالم الأدب مباشرة من البوابة العريضة، باعتبار ان «شعر» كانت احدى اهم الدوريات الادبية المتخصصة بالشعر الحديث، في العالم العربي؟

لقد طرحت هذا السؤال على الشاعر الذي كان يجلس كعادته في احد المقاهي الرصيفية في شارع الحمراء في رأس بيروت، فأجاب ان القصائد الثلاث هي باكورة نتاجه الشعري. وبالطبع، هذا لا ينفي ان يكون محفوظ قد نشر قبل عام 1959 مقالات وقصائد في مجلة مدرسية او مرجعيونة او في جريدة مغمورة، أسوة بسائر الادباء المبدعين.

لم تقتصر علاقة محفوظ بالخال ورفاقه على نشر القصائد في مجلة «شعر» والاشتراك في حوار «خميس شعر». فقد صدر له عن دار مجلة «شعر» ديوانان: «اعشاب الصيف» 1961، و«السيف وبرج العذراء» 1963. بل ان عضوية محفوظ بحركة الشعر الحديث، ساهمت في دخوله بوابة رئيسية اخرى، في المرحلة الثانية من حياته الادبية. كان أنسي الحاج من مؤسسي حركة الشعر الحديث. وكان، في الوقت نفسه، مسؤولاً عن الصفحة الثقافية في احدى اقوى الصحف اليومية في بيروت، وهي «النهار». وهكذا، بتزكية من الشاعر انسي ودعم والده لويس الحاج الذي كان رئيساً لتحرير الجريدة، اصبح عصام محفوظ محرراً رسمياً في الصفحة الثقافية منذ عام 1966 حتى 1996.

«استغل» الصحافي الاديب وجوده في منبر ثقافي اعلامي قوي، فرجحت كفة الدراسات في نتاجه الصحافي على كفة المقالات. واذا وجدنا ان دراساته قد انتقلت، بعد اشهر او سنوات قليلة او حتى بعد تركه «النهار»، الى معظم صفحات كتبه التي ناهزت الخمسين، ادركنا مدى نجاح هذا الكاتب في التوفيق بين الصحافة والادب، وبخاصة الابداع منه، تأليفاً ونشراً. وبطبيعة الحال، فان تمترس المؤلف في موقع ثقافي اعلامي نافذ، ساهم في «اقناع» دور النشر بإصدار كتبه، والقراء في الاقبال عليها، الى جانب مضمون نتاجه النقدي والابداعي المصاغ بمنهج علمي، كذلك كان لعمله الصحافي تأثير كبير في تنوع نتاجه، لدرجة ان الشعر لم يعد محوره الرئيسي. فقد اهتم الناقد والمؤلف ايضاً بالمسرح والتراث والقصة والترجمة والسياسة. ومحفوظ السياسي لم يكتف بالعديد من المقالات السياسية، وتأليف كتبه الثلاثة «أبعد من الحرب» 1993، و«أبعد من السلام» 1997، و«الارهاب بين السلام والإسلام» 2002، بل هو طعم سائر نتاجه، وبخاصة المسرح، بالسياسة. وعلى سبيل المثال، فإن مسرحيته «لماذا رفض سرحان سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستيريو 71»، كانت اقرب الى السياسة منها الى المسرح. فسرحان هو الفلسطيني الاميركي الذي قتل روبرت كندي لأسباب سياسية، والزعيم هو انطون سعادة مؤسس الحزب القومي الذي اعدمته السلطة اللبنانية لأسباب سياسية، وفرج الله الحلو هو احد اركان الحزب الشيوعي اللبناني الذي ذوبته السلطة السورية بالأسيد في الخمسينات. واذا كان للعمل الصحافي دور في تسييس بعض نتاج محفوظ، فان جذوره اليسارية، والحرب الاهلية التي اضطرته الى مغادرة بيروت والإقامة في باريس، كان لها دورها الكبير في الكتابة السياسية. لقد التقيته في احد مقاهي الشانزيليزيه عام 1979، اي بعد اربع سنوات من اقتتال اللبنانيين. كان متحرقاً للعودة الى بيروت، وسألني اذا كانت الاوضاع الامنية في بيروت الغربية حيث يسكن، تسمح بعودته، ولكنه اجّل العودة، لأنه «مهدد»، حسب تأكيده لي خلال ذلك اللقاء.

ان نتاج محفوظ المسرحي قد طغى كماً ونوعاً، على سائر نتاجه. لذلك جمع «الزنزلخت» و«كارت بلانش» و«الدكتاتور» و«جبران صورة شخصية مسرحية وثقافية» وغيرها، اضافة الى «سرحان...» تحت عنوان رئيسي «الاعمال المسرحية الكاملة»، التي اصدرتها «دار الفأرابي» في عام 2003. وبقدر ما أثارت بعض مسرحيات محفوظ جدلاً خلال تقديمها على خشبة المسرح، فإن الجدل تضاعف حين صدرت «المجموعة»، ويعود ذلك الى تحويله لها من العامية الى الفصحى الشعبية على حد تعبيره رغم قناعته بأن العامية هي الانسب للمسرح، وتوقعه بأنها (العامية) سوف تحتكر المسرحيات العربية في المستقبل القريب. والطريف ان ناقديه قد توزعوا الى فريقين متناقضين، احدهما رفض «تفصيحه» للحوار العامي رغم استعماله الفصحى المبسطة، والثاني غضب من موقفه الايجابي من العامية وتوقعه لها بمستقبل مشرق. وبالمناسبة، فان احد هؤلاء النقاد، رفض منذ سنوات نشر مقالة لي عنه بحجة انه متطفل على الادب، وسارع الى تمجيده بعد ربع ساعة من رحيله.

كان محفوظ ينشر في «النهار» صفحة اسبوعية كاملة حول المسرحي الفرنكوفوني جورج شحادة، او الاخوين رحباني وفيروز، او الفيلسوف زينون الرواقي، وأحيانا، كان يزرع وسط الدراسة او المقالة الكبيرة، قطعة صغيرة تحت عنوان دائم: «نقاط» واخرى اصغر بلا عنوان. ولم تكن كلماته وعباراته القليلة، ادنى عمقاً وشاعرية من مطولاته. في 18 يناير (كانون الثاني) 1987 يقول: «ربما هي لحظة الفرح القصيرة التي ومضت في عيني يوسف الخال عندما تجمع حوله البعض لتقليده وسام الاستحقاق اللبناني، ما يمنعنا من ابداء رأينا في المناسبة الكريمة». وكأنه يريد ان يقول انها مناسبة غير كريمة، متمنياً لو ان الخال رفض الوسام كما رفض جان بول سارتر جائزة نوبل.

وتحت عنوان «بعض الجنون المطلوب»، نوه محفوظ بقول الزميل خالد القشطيني في احد مقالاته الساخرة، ان كل دور النشر المعقولة تنشر كتب المؤلفين ولا تدفع لهم اجورهم. اما الدار التي تعاقد معها فقد دفعت له الاجر من غير ان تطبع كتابه. وتشاء الصدف ان الدار نفسها دفعت الاجر ولكنها نشرت احد كتب محفوظ «حوار مع رواد النهضة»، ومع ذلك، فقد مارس صاحبها «الجنون» ولكن بصيغة اخرى. فالعقد تضمن بنداً ينص على ان الناشر يسدد حقوق المؤلف الى «ورثته جيلاً بعد جيل».

ورداً على مسلسل الاغتيالات التي استهدفت عدداً من الكتّاب خلال الحرب الاهلية، اكد محفوظ على فشل الفعلة رغم نجاحهم في اصابة الهدف. فالذين «يطلقون الرصاص على فكرة، كما لو انهم يطلقون الرصاص على الضوء، او يحاولون خنق الريح بقبضات صغيرة، او يشدون عجلة التاريخ الى الوراء بخيط عنكبوت». (24 مايو 1987).

كان شارع الحمراء بمقاهيه الرصيفية هو الثابت الثاني لدى عصام محفوظ بعد الثابت الاول المتمثل بقراءة الكتاب وتأليفه.

فقد بدأ يداوم في مقهى «الهورس شو»، ويؤلف الكتب قبل خمس سنوات من مداومته في «النهار» وثماني سنوات من تدريسه مادة التأليف الدرامي في «الجامعة اللبنانية» في عام 1969، وترك الجامعة عام 1975 و«النهار» عام 1969، ولكنه استمر يداوم في المقهى الرصيفي، ويؤلف الكتب حيث صدر له عن «دار البيروني» عام 2005 «رحلة ثقافية في سبعينات القرن العشرين».

وأخيرا رحل عصام محفوظ، ولكن ليس بعد توقف قلبه من الخفقان في مستهل فبراير (شباط) 2006، بل في منتصف عام 2005 حين نُقل من ورشة التأليف والمقهى الرصيفي، الى غرفة العناية الفائقة.