قاموس «العشق الحديث».. في رسائل الهاتف الجوال

الشتائم من مفردات المحبوب والنذالة تقرب بين القلوب

TT

شهدت الكلمة المكتوبة، تراجعاً مؤلماً، في دورها الحيوي بين المحبين، منذ ازدهر الهاتف السلكي، ويكاد كلام العشق المكتوب برهافة، يصاب بمقتل مع ظهور الهاتف الجوال وخدمة الرسائل القصيرة. فقد أصبح، وخلال فترة وجيزة، للجوال شعراؤه وكتابه المجهولون الذين يبدعون على مدار الساعة، رسائل ساخنة وباردة، وقصائد فيها من اللوعة، بقدر ما فيها من الطرافة، وأحياناً السماجة إلى حد الغلاظة، وإطلاق نكات تواكب ما يجري في المجتمع من أحداث كبرى وصغرى، وكأننا أمام ديوان معاصر طيار، خارج إطار الثقافة الثابتة المتعارف عليه.

وإذ تناولنا موضوع «الحب» بمناسبة «فالنتاين»، بعدما حولته مصالح السوق إلى مناسبة عالمية، وتوقفنا عند ما يجري تبادله من رسائل بين العشاق، سوف يذهلنا حجم ما تشغله هذه الثقافة المستحدثة من مجال، وما ترسخه من قيم في آداب التواصل وبث المشاعر، رغم عدم أخذها على محمل الجد، إذ لم يعترف بوجودها بعد، إلا كوسيلة ترفيه وتسلية، لكن حتى هذه التسلية الجانبية، راحت ملامحها تتبلور على نحو سريع، لتأخذ شكل ثقافة شعبية شبابية جديدة، خارج سياق الثقافة المتعارف عليها، وتنطوي على مدلولات كثيرة، وهي إن كشفت عن شيء فعن عمق القطيعة بين ثقافة الجيل الجديد الناشئ والثقافة المعاصرة والموروثة على حد سواء. وكأنما ثقافة الديجتال قطعت من شجرة لا جذور لها. ففي حين كان الشباب في عقود ماضية يتبادلون قصائد نزار قباني، تكاد قصائده في هذا الزمن أن تختفي من دفاتر «موبايلات» الشباب والمراهقين، لولا كاظم الساهر وغيره من المطربين الذين غنوا اشعاره.

اليوم، يتم التواصل العاطفي في رسائل المحمول، بإرسال نغمة أو مقطع من أغنية، هي بمقام الفاكهة، لا تأتي غالباً جراء البعاد، إنما بعد سلام وكلام وأحاديث مطولة من خلال التلاقي المباشر أو عبر الهاتف أو الانترنت. وبالتالي تفقد الكلمة المكتوبة الكثير من حرارتها، هذا إذا تركت نمطية العبارات الجاهزة شيئاً من حرارة، بعدما بات رسول المحبين هو الهاتف الجوال، بغض النظر عن شروط سفير العاشقين الواردة في «طوق الحمامة»، من حيث حلول الثقة وحفظه للأسرار وتأديته للذي أرسله وصف كل ما شاهده على وجه المرسل إليه. هذه الشروط وغيرها، لم تعد ذات فائدة، مع ذيوع صفحات على الانترنت تزود المحبين برسائل جاهزة، مفصلة حسب الطلب والموضوعات، وبمجرد إنزالها على جهاز واحد تنتقل إلى سائر المستخدمين، فتغنيهم عن العودة الى كتب نزار وغيره، فما بالنا بكتب التراث الحافلة بأجمل معاني الغزل والوصل والهجر؟!

كثرة تداول تلك الرسائل، جعل المستخدمين يستغنون حتى عن البحث في الانترنت عن رسالة مميزة، إذ أهم ما يميز ثقافة الجوال هو الخمول، بكل ما لهذه الكلمة من معنى، فبمجرد أن تصل إلى الجهاز رسالة تنال إعجاب المرسل إليه، حتى يقوم بإعادة إرسالها إلى عدة أشخاص، من دون التوقف عند الأثر الذي من الممكن أن تحدثه الرسالة في نفس الآخر، وكأنما هناك قناعة بأن الكلام المكرور لا تأثير له، وإن وجد فسرعة العصر كفيلة بتبديده، كما يبدد الهواء الدخان.

ولنقرأ رسالة هذا العاشق: «لو وصلتك رسالة من محب ثان! تحفظها ورسالتي أنت تلغيها! مو كل من يرسل يحب ويعاني! ولا كل رسالة تمثل قلب راعيها؟». الواضح أن المرسل، رغم ما يحمل من أشواق، واثق بأن رسائل الجوال لا تنطوي على الجدية، مهما حملت من لوعة. فهذا المرسل العاشق نفسه، بإمكانه إعادة بث الرسالة ذاتها إلى شخص آخر تنطبق عليه الحالة عينها. فالخصوصية الغرامية باتت عمومية، بفعل سهولة تداول مشاعر في منتهى السرية، بتعميمها على الهواء، فتغيب عنها تلك التعابير التي تخص صورة المحبوب الوحيد والأوحد، كما تظهر في غزل الأولين والمحدثين، كالتغزل بالقامة والعين والثغر والشعر، أو أي من صفات المعشوق كبيت الشعر القائل:

بيضاء فيها إذا استقبلتها دعج كأنها فضة قد شابها ذهبٌ

الحب في أدب الرسائل القصيرة، يسهل الإمساك بمعانيه لبساطته، ومن يدري ربما لو كان ابن حزم الاندلسي في زماننا لأعاد النظر في تعريفه للحب بـ«أن معانيه دقت لجلالتها عن أن توصف» ولاضطر إلى التراجع عن جعل الكتمان أحد صفاته، ولما استنكر إذاعته، وبذله على الأجهزة، لأنه بمجرد أن يقرأ تعريف الحب في رسائل الجوال، ووصفه بأنه الطعام المفضل للطيور، حتى لو على سبيل الدعابة، فلا محالة سيمزق كل ما كتبه عن معاناة المحبين. وهي معاناة ذهب بعض مشاهير العشاق ضحية لها.

ثمة قصائد رغم وجدانيتها، لا تخلو من بشاعة: «لو يصافح قلبك كنت اقطع له أيديه أي محبة بعد ما فات الأوان؟؟». ثمة خلل في مفهوم الحب، يتبدى في هزال اللغة، إذ يطغى السلوك الوحشي بتقطيع الأيدي، عدا أن الصورة بالأساس لا تنطوي على حد أدنى من الجمال. وبالمقارنة مع قصة ديك الجن الحمصي نجد أن شدة الوجد ورقة الشعر تجعل القارئ يتفهم الجريمة المروعة التي ارتكبها ديك بقتل معشوقته، وربما تغاضى عن بشاعتها تحت وطأة جمال اللغة وحرارتها. ما تفتقده لغة الرسائل القصيرة، ليس سحر الكلمة فقط، وإنما عمق العاطفة، مع أن الكلمات تأتي أحياناً مفاجئة بجرأتها المتوارية خلف طرافة اللفظ وابتذال المعنى مثل: «كلبشني فتشني قحمشني بس لا تطنشني وبمسج صغير فرفشني ريتك تؤبشني»، كلام يصدق فيه ما قالته إعرابية للأصمعي:

قد فسد العشق وهان الهوى

وصار من يعشق مستعجلا

وشتان ما بين العجلة التي تقصدها الاعرابية، والعجلة في عصرنا، التي جعلت الشتيمة من مفردات التحبب: «وينك يا خفيف الدم يا أبو ضحكه تزيل الهم ما تسأل عن أصحابك؟ يا شيخ خلي عندك دم»، بل ان أدب الغزل في الجوال، لا يتوانى عن قلب المعاني، وتمني الموت للمحبوب كأحد سمات النذالة المحببة، إذ يفاخر العاشق بحقارته:

«ليتني قطرة من دمك، واستقر بقلبك وأعملك جلطة. المرسل: عاشق نذل».

حتى أكثر رسائل الحب القصيرة جدية ووجدانية، تبدو مضحكة لبدائية صنعتها، فعدا عن كون مؤلفيها عادة من المراهقين، لا يبدو الجوال كأداة ترفيه بيد الشباب، قادراً على منح كلمات الغرام تألقاً حقيقياً. فالواقع الذي تحركه عجلة الاستهلاك، لا بد له أن ينتج ثقافة تعبر عنه، تتمثل في عناصر عدة، إحداها لغة تحيلنا إلى صورة راهنة ضيعت هويتها، وتسعى جاهدة لتعيد وصل ما انقطع بتسلق الشعر، فيأتي مضحكاً مهما شابه الوجد مثل: «انا عمري بقايا شمع/ احرقني الاسى والدمع/ اذا ما فيك ترحمني/ احرق ما بقى مني». الهزال ليس في بلادة التعبير فحسب، وإنما أيضاً الرياء الذي يبطن شدة المبالغة، في وجبات العشق السريعة، التي تبدأ بنغمة، ثم رنة، فرسالة تتبعها رسائل، فموعد، ثم وبلمح البصر اللقاء، ولا مانع من أن نبقى أصدقاء، ورسائل من نمط: «الساعة 4 الفجر افتح الشباك وقول أحبك/ يرد عليك صدى يقول: نام بلا جنان فيأتي الرد: أرسلت لك إبليس يوسوس لك عشان تنساني/ رجع وقالي ما في داعي ناسيك».

أياً كان شكل أو نوع أدب الرسائل القصيرة، لا يمكن تجاهل تأثيره الذي أخذ يمتد نحو الأنواع الأدبية، من القصة الي القصيدة والرواية والمقالة، إذ دخلت الرسائل القصيرة في نسيج اللغة الأدبية كمفردات وعناصر وأحداث، في تأثر من طرف واحد، حيث يسعى الأدب الى احتواء الواقع بكل مكوناته، ومن ضمنه التطور التقني وما يفرزه من ثقافة خاصة. والقصة القصيرة «رسائل الموبايل» للكاتبة والصحافية العراقية كليشان البياتي، تعطي نموذجاً لهذا الاحتواء، فتحكي عن دخول الهاتف الجوال الى العراق بعد الحرب، وأهميته في التواصل مع الحبيب وأهمية رسائل الحب في التغلب على مشاعر الفجيعة التي تخلفها أنباء السيارات المفخخة والتفجيرات: «ألف وخمسمائة وسبعة عشر قتلى في حادث واحد.. الرقم مثير للحزن والدمار، رسالة منك على الموبايل تجعلني أنسى فناء نصف سكان الكرة الأرضية».

وبذلك لا أهمية لجزالة اللغة ولا لبيان المعنى في رسالة المحب المقتضبة، طالما أن الأهم هو الاطمئنان على أن الحبيب أو المرسل ما زال بخير، أو ما زال يبدأ رسائله بحبيبتي، إلا أنه لقبول تفريغ اللغة وتحويلها الى مجرد لغو، ولقتل القلق، لا بد من فهم سمات العصر وحالة الفراغ الهائلة التي يعانيها الشباب العرب، سواء من كان منهم يعيش تحت وطأة الحرب، أو في مناطق الأسواق الحرة. فراغ لا شك ينتج علاقات هشة، تنطق بلغة فقيرة، تنتظر مناسبة ملفقة كفالنتين لتستعيد شيئاً من عافيتها، بهدية رمزية ووردة جورية وعبارة محفوظة، ودعابة يرجى ألا تكون ممجوجة، ميزتها الوحيدة اختبار قدرة مجتمعات مشرذمة، على البقاء وعلى قيود الحب والحياة والثقافة من دون أن تنسى ماضيها.