الكاريكاتير الدنماركي.. ألا يستهدف المهاجرين العرب في الغرب؟

التهجم على المقدسات وحرية التعبير في الفكر الأوروبي

TT

معظم المسؤولين والمثقفين الأوروبيين يحتجّون بحرية الصحافة والتعبير لتبرير الرسوم الكاريكاتيرية الدنماركية وسواها التي أقامت الدنيا ولم تقعدها، ولكنهم، وعلى رأسهم جاك شيراك ونقولا ساركوزي ودومينيك دوفيلبان ورئيس وزراء الدنمارك، يعترفون، جميعاً، بأنه لا ينبغي جرح مشاعر المؤمنين بشكل مجاني أو زائد عن اللزوم. والسؤال الذي يطرحه المسلمون اليوم هو، هل يقبل الغرب منا، المعاملة ذاتها، وهل تحتمل المجتمعات الغربية، لو وضعت على المحك، المسّ بمشاعرها الدينية إلى الحد الذي تدعيه؟ فما هي حقيقة الأمر يا ترى؟

هل حرية الصحافة مطلقة لا حدود لها؟ أم ان لها حدودا ينبغي ان تتوقف عندها؟ اذا ما ألقينا نظرة على تاريخ أوروبا وجدنا انها كانت تعاقب المجدفين الذين يعتدون على المقدسات، حتى أمد قريب، وما عدا بلدين اثنين، هما فرنسا وبلجيكا، فان جميع بلدان اوروبا تمتلك تشريعات لقمع أي هجوم على المقدسات المسيحية، ولكنها لم تعد تنفذها باستثناء بلد واحد هو اليونان، والسبب هو ان شعب اليونان أكثر تمسكا بعقيدته المسيحية، على المذهب الارثوذكسي، من بقية شعوب اوروبا الغربية المغرقة في علمانيتها.

فمثلا، حاولت المانيا الغربية عام 1986 ان تعاقب بعض الكتَّاب الملاحدة الذين هاجموا المسيح والعقائد الدينية بعد ان اشتكت عليهم الكنيسة الكاثوليكية، ولكنها تراجعت عن تنفيذ العقوبة، باعتبار ان ذلك من خصائص العصور الوسطى ومحاكم التفتيش، ولم تعد تليق بالعصور الحديثة.

اما في انجلترا فقد سنَّوا عام 1838 قانونا يعاقب كل من يهاجم المقدسات المسيحية، وكان الهدف منه حماية الكنيسة الانجليكانية بعد ان تزايد الالحاد في المجتمع بسبب الثورة الصناعية وانتشار الافكار الفلسفية على نطاق واسع. وفي عام 1922 أُدين شخص يدعى جون ويليام غوت بالأشغال الشاقة لمدة تسعة أشهر بسبب تشبيهه للسيد المسيح بالمهرج أو البهلوان. وهذا يعني ان معاقبة الهجوم على المقدسات كانت سارية المفعول في انجلترا حتى بدايات القرن العشرين. ولكن في العصور السابقة كان مثل هذا الشخص يُقتل أو يُقطع لسانه كما حصل للفيلسوف جيوردانو برينو الذي انكر عذرية السيدة مريم وبعض العقائد الأخرى في المسيحية، وقتل عام 1600. أما بعد عصر التنوير الكبير فلم يعد ممكنا قتل الناس بسبب آرائهم الدينية وانما كانوا يكتفون بسجنهم أو معاقبتهم مادياً.

في فرنسا، لاحظنا ان المتعصبين الكاثوليك أحرقوا دارا للسينما في حي «السان ميشال»، اي في قلب العاصمة الفرنسية احتجاجا على عرض فيلم بعنوان: «آخر اغراءات المسيح» للمخرج الاميركي الشهير مارتن سكورسيزي عام 1988. ولحسن الحظ لم يكن احد في السينما عندما تم حرقها، أو قل كان فيها بعضهم ولكن اصابتهم جاءت طفيفة.

لماذا فعل المتعصبون المسيحيون ذلك يا ترى؟ هل لأنهم رأوا الفيلم او قرأوا الرواية التي أخذ عنها؟ بالطبع لا. ولكنهم سمعوا ان الفيلم يتحدث عن المسيح وكأنه انسان كبقية البشر وليس إلها. هذا ما يتعارض كليا مع العقيدة المسيحية. وما لا يستطيع ان يتحمله الاصوليون. ولكن هؤلاء عددهم قليل جدا في فرنسا. فالمسيحيون الليبراليون أو العقلانيون هم الأكثر عددا. وهم يعيشون ايمانهم بهدوء ويتقبلون النقد برحابة صدر.

في الواقع ان سكورسيزي ازعج كثيرا المتزمتين لأنه لمح الى بعض الاغراءات التي قد يكون المسيح ـ أو قل يسوع الناصري ـ تعرض لها في حياته، ومن بينها اغراءات الجنس، يضاف الى ذلك ان المخرج ركّز على العبارة الاخيرة التي لفظها المسيح وهو يتفطَّر ألما على الصليب: يا الهي، لماذا تخليت عني؟! واستنتج منها ان المسيح راح يشك بحقيقة دعوته في آخر لحظة، ويتمنى لو انه لم يفعل ما فعل ويصل الى هذه النتيجة المأساوية.

بالطبع فإن المؤمنين المتشددين لا يستطيعون القبول بمثل هذه التساؤلات المشينة التي تهدد اعتقادهم. ولذلك لاحقوا الفيلم الذي كان يُعرض في سبع عشرة صالة باريسية وبسبب تهديدهم لدور السينما هذه سحبته كلها من العرض ما عدا صالتين شجاعتين أكثر من اللزوم.. والواقع ان حرق سينما السان ميشال أرعب الجميع.

فهل يحق للمخرج ان يشكك بالمسيح؟ هل يحق له ان يعامله كبشر؟ وهل يجوز له ان يوحي، مجرد ايحاء، بأنه ندم على ما فعل في آخر لحظة لأن الله تخلى عنه ولم ينقذه من الصلب والتعذيب الرهيب؟

المثقفون العلمانيون يقولون لك: نعم. المتدينون العقلانيون يقولون: لم لا؟ ولكن هذا لا يهمنا ولا يزعزع ايماننا. وحدهم الاصوليون يستشيطون غضبا ويفكرون في الرد المباشر والانتقام. هكذا نلاحظ ان ردود الفعل ليست متطابقة في كل الاحوال. وعموما فإن الجمهور الاوروبي لم تعد تثيره مثل هذه القصص لأن طريقة ارتباطه بالدين لم تعد كما كانت عليه ابان القرون الوسطى. بمعنى ان الحساسية الدينية في أوروبا لم تعد تُستفز بسرعة. ولكن ظلت هناك أقلية، حاولت منع الفيلم بأي شكل، وحصلت مظاهرات ضده وأطلق رجال الشرطة في باريس القنابل المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين، بل وحصلت عملية حرق وتدمير سينما "السان ميشال". صحيح انه لم يسقط اي قتيل بسبب ذلك ولكن اصيب حوالي عشرة اشخاص بجروح. وراح راديو الاصوليين يشجع المؤمنين الكاثوليك على تمزيق مقاعد السينما. واما اليمين المتطرف الفرنسي، التابع لجان ماري لوبان فقد هدد هو الآخر ايضا بتدمير «بكرات» الفيلم المذكور لكيلا يعرض مرة اخرى.

صحيح انه لم تحصل تظاهرات ضخمة كما حصل في دمشق وبيروت، ولم يعتد احد على السفارة الاميركية، اي سفارة البلد الذي ينتمي اليه مخرج الفيلم، ولكن حصلت تهديدات واضحة.

ويبقى السؤال المطروح هو التالي: هل يحق للكاتب او رسام الكاريكاتير او المخرج السينمائي ان يعتدي على القناعات الراسخة للمؤمنين؟ بالطبع لا، فتصوير شخصية النبي الأكرم على هذا النحو الكاريكاتيري المخجل امر مشين وينبغي ادانته. والخطأ الاكبر الذي ارتكبه رسامو الدنمارك هو انهم اعتقدوا بأن الجمهور الاسلامي يعيش نفس الحالة التاريخية المرفهة للجمهور الاوروبي!! انهم لم يقيسوا حجم التفاوت التاريخي الذي يفصل بين وعي كلا الجمهورين. فالجمهور الاوروبي ليبرالي في اغلبيته ويستطيع ان يأخذ هذه الامور بفلسفة او نوع من الدعابة، اما جمهور المسلمين فلا يمتلك كل هذا الترف. والواقع ان المسيح لم يتأثر كثيرا ـ ولا قليلا ـ بفيلم سكورسيزي، كما ان النبي (عليه الصلاة والسلام) لن يتأثر بهذه الصور الكاريكاتيرية البشعة. فكلاهما من العظمة بحيث ان مثل هذه السخافات لا يمكن ان تنال منه.

ولو ان النبي (عليه الصلاة والسلام) كان سيتأثر بشيء، لتأثر بالهجوم الهائل الذي تعرض له إبان العصور الوسطى. ولكن هذا لم يحصل فظلت حقيقة الاسلام ساطعة تتحدى المشوشين المعادين. واسوأ طريقة للدفاع عن النبي (عليه الصلاة والسلام) هي تلك الطريقة التي اتبعوها في دمشق وبيروت عندما هاجموا ليس فقط السفارات الاجنبية وانما ايضا الحي المسيحي العربي اللبناني في الاشرفية!

يرى مالك شبل الاستاذ في قسم الدراسات العربية بجامعة السوربون ان اي تصوير او رسم لشخص النبي يعتبر من المحرمات في الاسلام، فما بالك اذا كان هذا الرسم كاريكاتيرا مشوها ومشينا. واما جيل كيبيل الاستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس، قسم الشرق الاوسط والدراسات العربية، فيرى هو الآخر ان هذه الرسوم تشويه مدان، ثم يردف قائلا: «انه لمفهوم ومتوقع ان يشعر المسلمون بالصدمة من جراء تصوير نبيهم على هذه الشاكلة غير اللائقة ابدا. واذا كان بعض المسلمين ارهابيين متطرفين فهذا لا يعني ان كل المسلمين ارهابيون متطرفون! هذا تعميم جاهل ومغرض».

اما روبير مينار رئيس منظمة «مراسلون بلا حدود» فيرى انه لا ينبغي التضحية بحرية التعبير حتى ولو كانت جارحة او صدمت اغلبية السكان. وهذا ما تقوله المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان التي يقع مقرها في مدينة ستراسبورغ الفرنسية، فحرية التعبير والصحافة مقدستان في اوروبا. ثم يردف روبير مينار قائلا: «الحد الوحيد الذي ينبغي ان تقف عنده حرية التعبير هي الدعوة الصريحة الى تكفير فئة معينة في المجتمع والدعوة الى تصفيتها جسديا. فهذا شيء مرفوض وينبغي ان يدان ويعاقب فورا. ونفس الشيء ينطبق على الافراد».

ولكن هنا يطرح سؤال نفسه: أليست هذه الرسوم الكاريكاتيرية تعني الهجوم على فئة معينة هي فئة المغتربين المسلمين في الدول الاوروبية؟ أليس الهجوم على نبيهم يعني الهجوم على دينهم وتشويه سمعته؟ الا ينبغي ان تتوقف حرية التعبير عند هذا الحد؟ ألم تخطئ الصحيفة الدنماركية اذ تجاوزت الخطوط الحمر وانتهكت المقدسات؟ وهل حقا ان النبي (عليه الصلاة والسلام), مسؤول عن اعمال بن لادن والزرقاوي؟ هنا بالضبط تكمن الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها الصحيفة الدنماركية. فلا يمكن بأي شكل ان تقارن، ناهيك عن ان نطابق بين سيد البشر وبين وحش دموي كالزرقاوي. فقليلا من الحياء والخجل اذن ايها السادة!! وكفوا عن اللعب بالنار وإلقاء الكلام على عواهنه.. فما بهذه الطريقة يمكن ان نخفف التوتر بين الاسلام والغرب ونعيد اقامة جسور الحوار والتعاون البناء.