مشاغبون يعيدون تركيب العالم في «غاليري زملر صفير » البيروتي

الفن ليس ترفاً.. انه يصنع نبض ضمائرنا

TT

الفن ليس لوحة تعلق على حائط، ومنحوتة تزين وسط ساحة أو صورة فوتوغرافية تنسى في خزانة، الفن اليوم يحاورنا على كل زاوية طريق.

ويتدخل في صميم خصوصياتنا، ومن يشك في ذلك عليه أن يزور «غاليري زملر ـ صفير» في بيروت، ليتأكد من أن ضمير كل منا هو صنيعة فنية بامتياز.

منذ ما يقارب السنة، افتتحت المغتربة اللبنانية أندريه زملر ـ صفير، في بيروت، فرعاً لصالتها الألمانية القائمة في هامبورغ، رغبة منها في تقوية شوكة الفن الحديث في لبنان. ومنذ ذلك الحين، وهي تجعل من هذا الفن الذي كان ينظر إليه على أنه تجارب مشرذمة وسطحية، مشتهى الزائرين. معرضها الحالي الذي يحمل عنوان «حديث» ينتخب تلك الأعمال التي تروي قصصاً وتستخدم الكلمات، وتحاور ناظرها ببلاغة طاغية. الفنانون متعددو الجنسيات والأهواء، تجمعهم المهارة والجرأة.

اللبنانية منى حاطوم تحتل جناحاً علقت فيه صورة جانبية لوجهها بحجم ضخم، وعلى أنفها وقف جندي إسرائيلي صغير الحجم، يوجه بندقيته إلى صدغها، وهي تحدق فيه بعينين مفتوحتين، وقد كتب على الصورة بخط كبير «على جسدي الميت». حاطوم تكمل فكرتها بكوبين موصولين بشريط ضعيف كتب على أحدهما «الشرق» والآخر «الغرب»، وستارة كبيرة طبعت على قماشتها، الصفحة الأولى (كاملة) لصحيفة تتحدث عن فقراء مخالفين للقانون، ينقلون الموز، تقبض عليهم الشرطة بحجة الأحمال الزائدة. وعلى الأرض، نجد للفنانة عينها، مجموعة من البسط بنية بلون التربة، على كل منها هيكل عظمي يتراقص على سجيته. لمنى حاطوم مغامرات تعليمية وتجريبية ما بين أوروبا واميركا وهي حاصلة على اكثر من جائزة عالمية، وإلى جانبها يعرض فنان أميركي معروف، مجموعة من الحروف الأبجدية اللاتينية المصطفة على الأرض لتشكل كلمات من نوع: حقيقة، اختلاف، تغيير،... خمسون حرفاً معدنياً تصنع بها ما تشاء، بسعر 30 ألف دولار، «الإمضاء روبرت بيري». قد يبدو السعر مزعجاً للبعض، ومضحكاً لآخرين، لكن الجو الذي تضفيه هذه الكلمات لو ثبتت متفرقة على أرضية مدخل إحدى المؤسسات الدولية العاملة في سبيل النهوض بالانسانية، لبدت شيئاً مثيراً وبليغاً للغاية.

شهير آخر هو المصور الفوتوغرافي الأميركي فيليب لوركا دي كورسيا، الذي يعمل على التقاط صور المارة في الشوارع، لكن ليس اي عابر سبيل. فهو معروف بأنه يحضر لأجوائه ولقطاته، كما يفعل مخرج أي فيلم سينمائي، وينتقى وجوهه بدقة وكذلك الزوايا التي يختارها ليكبس منها على زر كاميرته. الصورة الفوتوغرافية الواحدة هي أيضاً بسعر 30 ألف دولار. لكن المتمعن في الوجوه والمناخات المحيطة بها، لربما وجد ان هذا الفنان، له ميزة ليست لغيره. وصوره هي رخيصة نسبياً لو قيست بفيلم الفيديو الذي انجزه الأفريقي ـ الجنوبي ويليام كنتردج ورفض حتى المساومة على بيعه. فيلم ضبابي، في بعض مشاهده، لكنه مركب من آلاف الصور، كل دقيقة، هي عبارة عن سبعين رسماً أنجزها الفنان بيده، وهو يصل إلى 15 دقيقة.

معروضات «حديث» تحريضية أو حوارية، لكنها، على أي حال، لا تقبل الحياد اتجاهها. ربيع مروة وهو فنان تجريبي معروف في لبنان، صور نفسه عارياً، وجعل ثقباً في العينين، ووضع للزائر منصة صغيرة بحجم قدميه ليقف عليها وينظر داخل العينين ويصاب بالدهشة. بؤبؤان حقيقيان يطلان من الثقبين ويحدقان في الناظر. مسؤول الصالة يخبرنا انه مجرد فيلم فيديو، وان ربيع مروة جاء أكثر من مرة وغير الفكرة. لكن مروة استخدم أيضاً التظاهرات اللبنانية كخلفية للوحاته، وصور نفسه طالعاً كالنافورة من بين المتظاهرينن وقد تدفق من فمه الماء.

محاولة تفكيك للعالم، وإعادة تركيب، لا يكل هؤلاء الفنانون، عن ممارستها، لا لعبث مجنون كما قد يظن البعض، وإنما ليجعلونا نرى الأشياء من وجهة أخرى. الفنان المصري معتز نصر الدين، عاشق للوجوه وتعبيرها، ويحب أن تمارس الصورة سحرها. وقد عرض مقاطع من فيلم «الأرض» ليوسف شاهين الذي ظهر عام 1968 وفيها يتحدث محمود المليجي عن عذابات المواطن المصري والآمه. هذا وحده قد لا يعني شيئاً على الإطلاق، لكن على شاشة أخرى، وبالتوازي مع مشاهد «الأرض» رأينا سيدة تعيد تمثيل المشهد عام 2003، وتنطق بالكلمات نفسها. شيء لم يتغير إلى الآن، ولا تزال المرأة تتحدث عن المعاناة نفسها التي شكا منها محمود المليجي، ولم يتجاوزها الزمن، في عمل تركيبي يحمل اسم «صدى».

من المعروضات اللافتة لوحات تشبه الإعلانات المضاءة في الشوارع الليلية للعواصم الساهرة. السويسرية دانيال بتي تنسخ الصور الفوتوغرافية وتكبرها على ألواح بلاستيكية وتلونها وتثقبها، وتضيئها لتعطي انطباعاً ترويجياً عالي النبرة. المخلوق البشري في الصورة يصبح غيره، بعد ان تشتغل على ملامحه الفنانة بتقنياتها الوهاجة، وتخرج من فمه ما تريد من عبارات، ربما لم يكن يفكر بها. المعروضات تخرج عن كونها قطعا فنية، انها تطرح افكاراً تغييرية، احتجاجية، تحاور، تناقش، وتطرح وجهة نظر مغايرة، لا بل هي تتقصد صدم المتفرج. فنانون، لهم كلهم باع طويل مع التقنيات الحديثة، وتاريخ من المعارض الجوالة شرقاً وغرباً، جمعتهم أندريه زملر ـ صفير في بيروت، في هذه الفترة بالذات، ليس من باب الصدفة ربما، بل لأن حرب الأفكار هي في أوج جحيمها، والفن هنا يقول كلمته ببلاغة تخرق تلافيف القلب، وتجعل الإنسان يشعر بشكّ وريبة في بعض مسلماته. حقاً انه الفن الحديث عندما يقدم ناضجا. يستمر المعرض لغاية 22 أبريل 2006.