جاز «إن فيرجن» في «مسرح المدينة»: يختزل إيقاعات الحياة الصاخبة في لبنان

TT

هل استمعتم يوما إلى حوار يدور بين آلات موسيقية، يتطور ليفجر غضبا، ثم يعود لنقاش عقلاني، من دون أن تفلت منه تلك الإيقاعات الهادئة وكأنها كلمات يبوح بها حبيبان بعد شجار طويل، تضاربت خلاله وجهات النظر، حد تزعزع «عرش الأحلام» الذي نصباه بتأن وعناية.

لحظة، لنعد إلى الواقع. تلك كانت الصورة التي ارتسمت في «مسرح المدينة» في بيروت، وفرقة «إن فيرجن» تقدم أمسية موسيقية من الجاز. خمسة عزفوا على تلك الخشبة لنحو ساعتين، «عرضوا» خلالها كل أنواع الحوارات وما يرافقها من «تدخلات عرضية». البداية كانت للدرامز (إميل بستاني) الذي بدا سيدًا يقول كلمته في حضرة «أفراد ـ دمى»، تولّوا منذ زمن بعيد «وظيفة» الإصغاء إلى عباراته الموجزة والقاطعة في آن واحد. غير أن ذاك السيد وجد من يتحداه لأنه كان لدى البيانو (جويل خوري) شيء ما ليقوله وفي المستوى عينه من النوتات الحازمة بصواب. وفي مشهد محتدم كهذا كان لا بد من تدخّل ما، فتولى المهمة الساكسوفون حين أطلق نضال أبو سمرا العنان لحنجرته المبلسمة لذاك الصخب. فكانت النتيجة «غباوة مفاجئة» stupidity blues (عنوان المقطوعة الأولى).

وفي جولة أخرى كانت أنامل موريس خوري تتدافع لتلاعب أشرطة الغيتار الكهربائي مع إيقاع، أثار حماسة الجمهور وحينها بدأت الخصور تتمايل والأرجل تهتز. لقد كانت بداية انسجام بين جمهور متعطش لسماع جاز، استأصل كل تلك الأشياء الصغيرة التي تتراكم داخلنا وتتحول عبئا ثقيلا مع الأيام. ها هما «زعيما» تلك الأمسية، الدرامز والبيانو، يتحولان بصخبهما المتناسق، خلفية لأنغام سوبرانو الساكسوفون المتمايلة كأنثى والراقصة بدلال محترف، للفت آذان طائشة. فبدت لوهلة كمن انتزع بحنكة زمام السلطة من ذاك المتحكم بكل الأمور. تلك المشهديات الرائعة التي ارتسمت في حضرة «الجمهور» بدت كأنها استعراض لقوى موسيقية على مدرج روماني، تنتهي بفوز إحدى الآلات لتنال شرف الكلمة الفصل!

ومن أجواء التحدي، انتقل الحاضرون مع معزوفة أخرى (is it so) إلى مدينة اللهو والفرح وكأنها «واحة ـ زمنية»، شرعت خلالها الأبواب للمرح الطفولي الذي يرسم باحتراف بعيد عن الزخرفة، ابتسامات على وجوه بدت كأنها تشهد باكورة هذا النوع من التفاعل. ومع التصفيق الذي علا تدريجا راحت نغمات الساكسوفون (الذي تقاسم أداءها راتش ونضال أبو سمرا) تتمايل مع الغيتار الكهربائي ليؤلفا ثنائيا متكاملا. وكانت العودة إلى جذور الموسيقى الكلاسيكية الطابع، في معزوفة، باح البيانو في بدايتها بما لديه ولم يتوان لحظة عن رفع نغماته أو يتردد في إظهار رومانسيته للمرة الأولى، فتسللت إليه إيقاعات الدرامز «الذكورية» ليعانقهما بوق الساكسو.

أمسية راحت تروي بفلسفة موسيقية إيقاعات الحياة اليومية في لحظات. حياة بات من الضروري أن ننتزع منها ابتسامات خاطفة، حتى وإن بدت صعبة الالتقاط، كمن يحاول الإمساك بزئبق أو يلحق بفراشة تدنو من جمال ناري.