هاينه.. الفاتيكان أحرق كتبه بتأليب من الدولة البروسية

من تاريخ حرق الكتب في العالم

TT

تفاجأ زوار الكنائس الايطالية عام 1836، وزوارالفاتيكان بالطبع، بملصقات على الأعمدة تحمل صورة الشاعر الألماني هاينريش هاينه. ولم تكن الملصقات شبيهة بملصقات القرن التاسع عشر التي تروج للرسامين والأحداث والمناسبات، وإنما مماثلة لملصقات «مطلوب حيا أو ميتا» التي تذكر بأفلام رعاة البقر الاميركية.

وكانت الملصقات، تحمل بالطبع ختم الفاتيكان، وتصف هاينة بـ «الشاعر اليهودي الألماني الذي يعيش في فرنسا» رغم أن الرجل تحول إلى المسيحية قبل نحو عشر سنوات. ولا تكشف هذه الملصقات، الموثقة في أرشيف الفاتيكان اليوم، احتفاظ الفاتيكان بلجنة رقابة على الأدب في ذلك الزمان، وإنما تكشف أيضا العداء العلني لليهودية، سواء من الكنيسة أو من السلطات السياسية القائمة آنذاك في إيطاليا وفي أوروبا.

وتسجل الملصقات «مرسوم»، أو لنقل «فتوى»، الفاتيكان التي يقضي بمنع ثلاثة من أعمال هاينريش هاينه الهامة بسبب فقرات فسرت على أنها هرطقة وتجديف بالله. وينص المرسوم: «لا يجوز لأحد، مهما كانت منزلته ووضعه المالي، أن يقتني، يقرأ، يتداول ويبيع الكتب التالية لأنها تندرج ضمن كتب الهراطقة: «دي لا فرانس»، «صور رحلة» و«محاكمة ألمانيا». ويطلق المرسوم حكما على المسيحي المخالف للتعليمات يقضي بحرمانه من دخول الكنيسة ومن حقوقه الكنسية. ولا شك أن الحظر شمل عددا كبيرا من الناس المؤمنين في ذلك الوقت لأن مسيحيي تلك الأيام كانوا أكثر حرصا من مسيحيي اليوم على الاحتفاظ بعلاقتهم بالكنيسة.

يعود تاريخ محاكم التفتيش الأدبية إلى زمن بعيد، لكنه اتخذ شكل «قائمة» سنوية تصدر عن الفاتيكان لعدة قرون امتدت بين 1542-1967. وكشفت الفاتيكان هذه القوائم، ووجود محكمة التفتيش الأدبية، كما أفرجت عن بعض الوثائق عام 1967. وكانت هذه القوائم Index Librorum Prohibitorum تجدد كل عام وشملت خلال تلك الفترة نحو 5000 كتاب ومقالة ودراسة تعود إلى مشاهير الكتاب الأوروبيين. وكانت تلك محاولة من الكنيسة، منذ القرن السادس عشر، لفرض سيطرتها على أخطر «سلاح» يهدد الكنيسة بمفاهيم «الحداثة» و«الثورة» و«المساواة» و«العدالة»، إذ شهد قطاع الصحافة والطباعة وتوزيع الكتب ازدهارا كبيرا في ذلك الوقت، وعمت الصحف اليومية المدن الكبيرة وصارت في متناول الملايين، كما ازدهرت تجارة الكتب وظهرت المطابع الكبيرة التي تطبع وتوزع الكتب الحديثة على نطاق واسع وبمختلف اللغات.

لاحظت الكنيسة ان الرقابة على الرعية ستفلت من أيديها في عصر يهدد بالثورات، وراعها هذا التقدم السريع في الطباعة والنشر، فأخذ الفاتيكان على عهدته مهمة «تخليص المؤمنين من كل ما هو ضار بالعقل والإيمان والحياة». وقررت ان كل ما يضر بالإيمان يجب أن يحجب مدى الحياة عن القراء مهما كانت قيمته. ويشير البروفيسور هوبرت فولف، من جامعة غوته في فرانكفورت، في كتابه حول «هاينه والفاتيكان»، أن الحظر على كتب هاينه الثلاثة صدر في أيام الكاردينال جياكومو غويستينياني (1769-1843) الذي ترأس آنذاك لجنة الراقبة على الأدب. وتضم اللجنة عادة نحو 30 شخصا متشددا، وتقوم بدراسة الكتاب الواجب عن طريق تكليف أحد الأعضاء فقط بكتابة التقرير عن الكتاب، علما أن لجان الحظر الحكومية التقليدية تعتمد طريقة قراءة الكتاب من قبل كافة أعضاء اللجة والنقاش حوله. وتبدو طريقة الكنيسة أكثر فردية وتعتمد إلى حد كبير على طريقة قراءة القس المكلف بالموضوع.

وفي حالة هاينه، تم اختيار ثلاثة أعضاء لدراسة كتبه الثلاثة وهم: بيو بيجي، جيوفاني باتيستا بالما وجوزيبة ماريا غرازيوسي. وكلفهم الكردينال بدراسة الكتب وكتابة تقارير عرض عنها بدون تفسير وإضافات وتأويلات. ووضع الكردينال المتشدد أمام القساوسة الثلاثة «معايير» الحكم على هرطقة الكتب من عدمها حسب الأسئلة التالية:

هل تتعرض لأسم الرب والمسيح بالقذف؟

هل تحط من قدر الكنيسة والقضايا المقدسة؟

هل تمتدح مناهضي الكنيسة وتنتقد أخلاقها؟

هل تثير الشعب وتدعو للثورة؟

وإذ تبدو الشروط الثلاثة الأولى على علاقة بقضايا الإيمان والكنيسة، يبدو الشرط الأخير سياسيا يتعلق بحريات الصحافة والرأي والمعتقد. ولو أنا ملنا للاعتقاد بأن المحرض على حظر كتب هاينه جاء من صفوف السياسيين لا الكنسيين، لتوجب علينا أن نلاحظ أن الكردينال غويستينياني كلف أكثر القساوسة تزمتا وشغفا بعمله البوليسي، وهو جيوفاني باتيستا بالما، بدراسة كتاب «محاكمة ألمانيا». وكتب البروفيسور فولف في كتابه ان دراسته لوثائق الفاتيكان تثبت أن بيو بيجي و جوزيبة ماريا غرازيوسي تعاملا مع كتب هاينه بسطحية بحكم «الحكم المسبق» للكنيسة على الشاعر الألماني، إلا أن بالما درس الكتاب المذكور بدقة وحلل مفرداته ووضع الكثير من الملاحظات حوله.

تحدث بالما أمام محكمة التفتيش عن امتزاج هرطقة هاينه بحقده على الكنيسة «كيهودي» لا تعترف الكنيسة بمسيحيته. وذكر في الاجتماع الذي تم يوم 12 ديسمبر/ كانون الاول/ 1836 أن هاينه يهودي من أصل بروسي محسوب على جماعة الهيغليين الجدد و«المانيا الفتاة». ووصف بالما، الذي قتل لاحقا في اضطرابات عمت روما برصاصة اخترقت النافذة عام 1848، هاينه بأنه كاتب حيوي و«مفعم الروح»، بيد انه وصفه أيضا «بالخطر» و«المحرض». واعتبر بالما الشاعر الألماني وليد الفلسفة الاصلاحية التي بدأها مارتن لوثر، وذكر أن هاينه يدعو إلى تعزيز دور العقل والإصلاحات في صناعة «اللاتدين» الذي سيقود إلى الثورة.

لم يكن وقت محكمة التفتيش الأدبية كافيا للإلمام بكافة الكتب والمقالات والدراسات التي كانت تصدر في عصر الثورة الطباعية في القرن التاسع عشر. وكان الفاتيكان مشغولا بمطاردة وحرق «ساحرات» الأدب الإيطالي اكثر من اهتمامها بملاحقة الكتاب الألمان والباريسيين في عصر كان لا يزال يفتقر إلى الترجمات السريعة. ويشي أرشيف الفاتيكان بأن منع كتب هاينه من قبل لجنة الرقابة البابوية صدر عن موقف سياسي، وخصوصا في الموقف من كتاب «محاكمة ألمانيا»، أكثر مما يشي بمصادرة عمل ينافي موقف الكنيسة من الإيمان والوجود والحياة. فمن وشى إذن بهاينه إلى الفاتيكان؟

يتحدث فولف، في مجرى بحثه القيم بين ممرات وداخل أقبية الفاتيكان، عن «أدلة» تشير إلى تورط الدولة البروسية. ويشير فولف باصبع الاتهام مباشرة إلى «مستشار» الدولة البروسية بفيينا الكونت ميترنيش الذي ناصب هاينه العداء داخل وخارج ألمانيا. وسبق لميترنيش أن حرض برلمان فرانكفورت ضد الشاعر واصفا إياه بـ «أخطر كاتب» و«رأس طائفة» ألمانيا الفتاة. ووقع فولف على وثائق تدين ميترنيش بتحريك السفير البروسي في روما ضد هاينه، بل ان السفير البروسي المذكور التقى مع وزير خارجية الفاتيكان الكردينال لامبروشي وتحدثا حول الأعداء المشتركين للامبراطورية والكنيسة.

يثبت ذلك أيضا «محور فيينا ـ روما» الذي رعاه البابا جريجور السادس عشر (1831-1846) وتم توقيعه بين إيطاليا والامبراطورية البروسية عام 1815. وكان ميترنيش والبابا جريجور يتبادلان المخاوف من كل حديث عن الحرية والمساواة والعدالة ويتفقان على ضرورة محاربة الأفكار «الهدامة». ويبدو أن هذا المحور كان الأساس الذي اعتمدت عليه محاكم التفتيش ضد الكتب والكتاب في تاريخها الطويل إلى أن ألغاها البابا بول السادس عام 1967. ولا ننسى أن ما يثبت تحرك النمسا باتجاه الفاتيكان في قضية هاينه هو قرار حظر مماثل صدر عن الدولة البروسية ضد كتب «طائفة» المانيا الفتاة عام 1835.

بمعنى آخر، لم تنسجم أشعار هاينه مع ايقاعات الكنيسة الكاثوليكية ولا مع «بحور» الكتاب المقدس وحكم عليها بالموت، وإن آنيا، من قبل الفاتيكان. ولم تكن محكمة التفتيش الأدبية بحاجة إلى أكثر من التزمت والعقلية الكنسية المحافظة كي تطعم كتب هاينه للنيران. وهذا يثبت نبوءة هاينه الهائلة التي قال فيها «ان من يبدأ بحرق الكتب ينتهي بحرق الإنسان» (مسرحية «المنصور» 1819). علما أن قائمة الكتب المحظورة التي يصدرها الفاتيكان شملت أيضا عام 1845 ديوان هاينه الجديد «أشعار جديدة».