شخصيات ومواقف متناقضة في كاريكاتيرات لغوية

قهوجي يتجاوز همومه اللبنانية إلى العربية في كتابه الساخر الجديد

TT

منذ أن أغلق عبد الله النديم مجلته «التنكيت والتبكيت» في أواخر القرن التاسع عشر، لم يحظ الأدب الساخر سوى باهتمام كتاب قليلين، مع ما لهذا الأدب من تأثير لظرفه ولغته التي تجرح دون أن تدمي. ومن هؤلاء الكتاب غازي قهوجي الذي أصدر حديثاً كتابه «قهوجيات.. ما هب ودب».

في كتابه الجديد، لم يتخل غازي قهوجي عن «مشروعه الوحدوي الطموح لإطالة نفس الأمة» فحسب، بل تخلى أيضاً عن السرد الوصفي والمقال المشهدي الساخر كأسلوب كان ركيزة كتابه السابق «أركيلة الحلم العربي» لصالح عرض الصور والتعليق عليها والإمساك بتداعياتها، مع الاحتفاظ بالمشهدية، كصورة تخصب المقالة فتجعلها حمّالة أوجه رغم بساطتها ومباشرتها التي تغوي القارئ.

واعتمد المؤلف على الكاريكاتير البصري الحروفي، يرسم شخصياته ومفارقات المواقف وينسج من التناقضات خيطاً لتكتمل اللوحة عنده، من دون أن يتخلى عن داء التصميم المشهدي «السينوغرافيا» وهي المادة التي يدرسها في الجامعتين اللبنانية واليسوعية.

القضايا التي أصبحت تستقطب عين المؤلف وقلمه، لم تعد حوادث وحالات محددة يغمز من خلالها ويستخدم قناتها ليمرر ضحكته الدامية، ووجعه المكلوم. أصبح أكثر يأساً وتعرضاً للاحتكام إلى خلفيات الأمور ومجرياتها وما تلوّح به. تستنهضه الفكرة فينهض بها ويغور في أعماقها مستخرجاً رأيه الدقيق والحاسم من مقابلة التناقضات، ومن استدرار التداعيات.

فالكتاب ابن شرعي لكاتب لم يذق من حلاوة العروبة إلاّ هزائمها المتوالية، ومن الوطنية سوى الخيبة والمرارة، ومن أمة الانتصارات الموعودة سوى الحسرات والمراثي.

تأخذ التداعيات في كتاب غازي قهوجي بعدين: الأول، تداعيات لغوية: فهو يعصر اللفظة ويأخذها من جوانبها كافة، ويضرم فيها نار أسئلة يستخرجها من مخزون ثقافي شعبي مستنفداً طاقاتها في خدمة النص. ففي مقالة «كذب المبيضون» يعود بنا إلى ما قبل ابتكار وامتلاك الناس للأواني المنزلية «الستانلس» و«الألمنيوم»، يوم كانت أوانيهم المعدنية من النحاس الذي يحتاج إلى «تبيض» لتنظيفها من الصدأ والجنزار. يمسك غازي قهوجي بالفكرة ليطيعها في خدمة تبييض الأموال، ويشغل القارئ في مفارقته بين الأمرين، بمعنى البياض المجازي أي الدلالة على النظافة والطهارة، ليحط في الموقع والهدف المرجو وهو تبييض الأموال الذي يحول الممنوع إلى مسموح والحلال إلى حرام، ويرفع مكانة اللصوص إلى أعلى المراتب وأسمى المواقع. يتساءل مستغرباً كيف يزول «التبييض» كمهنة، ويبقى بل يكثر بالمقابل المبيضون. وتتوالى الخبريات فيجد في النظرية العلمية التي تقول بأنه كلما ازدادت السرعة قصر الزمن، وإن الوقت يتناقص تدريجياً مع تصاعد وتيرة السرعة التي هي الهدف المرتجى من قبل الحرصاء على استثمار الوقت، فيبني عليها قناعاتنا المتداولة «إن فلاناً في عمله يسابق الزمن». خال المؤلف في لحظة خادعة أن العربي اكتشف أخيراً قيمة الوقت بعد احصاءات حوادث الطرق التي أشارت إلى أربعة آلاف قتيل في عام واحد معظمهم من الشباب الذين تقل أعمارهم عن 35 عاماً وأن نسبة 85% من الحوادث ترجع إلى أخطاء بشرية تتمثل بالسرعة الزائدة عن الحد. لكنه تبين أن سر السرعة يعود إلى أسباب جوهرية تتمثل في معظمها بالذهاب بسرعة فائقة إلى أماكن تافهة. ومن تجليات السرعة اهتمامنا العربي العظيم بالوردة لا بعطرها، بجمال المغنية لا بصوتها، بمهرجانات توقيع المعاهدات لا بنصّها. السرعة علمتنا أن نتسرع فأصبحنا نقطع الوقت كي لا يقطعنا، فإذا به لا يقطع المسافات بل الرؤوس.

أما البعد الثاني، فهو نقد الحالة العربية المأزومة من جوانب متعددة بأسلوب توصيفي بعرض حالات بعينها: الفضائيات العربية كشفت أمام العالم أجمع أننا شعب تغمره السعادة، ويعيش ضمن مجتمعات خالية من العقد والتعقيد، فالشاشات الفضية تجتاحها حمى الرقص، وتحفل بكل أنواع الفوازير، وفتاوى الطبخ، وطوالع الأبراج، وخفة دم وعقل، والبرامج الحوارية تستضيف ما هب ودب، من «المراجع ورجالات الفكر» الذين يشرحون الأبعاد الآيديولوجية للتبولة وعلاقاتها البنيوية لأكلة الكبسة العربية، وصولاً إلى التحليل السياسي الذي لا يتجاوز آراء طوائفية متباينة في مواضيع الإفادة من الزعتر أو تل الزعتر ومن البرغل الناعم أو أنفاق الناعمة العسكرية.

لقد أجمع العرب أخيراً على الوحدة، والتفوا بعد عقود التشتت والضياع والانقسام حول التلفزيون. فتشكل الإجماع العربي المنشود وعلا الحس التضامني وظهرت الوحدة الحقيقية من المحيط إلى الخليج. لقد حقق التلفزيون ما لم تستطع أن تحققه كل الثورات والانتفاضات وكل برامج ونضالات الأحزاب والحركات الوحدوية، حتى أوصلنا إلى القول بأننا لا نريد الوحدة العربية.

وفي مقالة أخرى، يدلق كمية من الملح على جرحنا المفتوح على أميركا التي وصلت بغيرتها على العرب وحميمية علاقتها بهم إلى درجة كتابة كل طوالع أبراج المواطنين العرب على مدى السنوات المقبلة، ولم تعد تسمح لهم بأن يقرروا مصيرهم بأنفسهم القاصرة، خصوصاً أن العرب لم يتفقوا في بلادهم وفيما بينهم على قواسم مشتركة بقدر ما توافقوا على انقسامات مشتركة. ومما يؤكد ذلك أن اللغة العربية تتصدر كل لغات العالم في نحتها واستنباطها للأفعال التي تدعو إلى الوحدة والتضامن والتآلف والتآخي، ومن المعروف أن هذه «الأفعال» تزدهر في حالات التفرقة والتفسخ والتشتت لتسد النقص الفاضح، فهي لغة وحدوية بامتياز لشعب عَرَف كيف يتفرّق بامتياز.

ويستعرض تظاهرات الضجيج الهادرة في أكثر من ميدان عربي وموقع، حتى أصبحت تهدد بانتشار الوباء السمعي، خصوصاً مع استفحال وباء الغناء الهابط الكاسح الماسح موقعاً بالمواطنين خسائر فادحة بما تبقى لهم من رهافة السمع. فالضجة المتواصلة ترفع من وتيرة ضغط الدم، خصوصاً إذا صدرت عن جماعات بلا دم، وتقضي على ما تبقى لدى الأمة من صبر وسلوان وتولد نوعاً جديداً من التصرفات المصنفة من خارج السائد والمألوف. لقد اشتهر العرب بالسمع كموصل إيجابي لاستقبال الأصوات، وتأسيساً على هذا لم نستطع الانتقال من مقام «اسمع لمّا قلّك» إلى «شوف لما قلك»، أي العبور من حاسة السمع إلى البصر، وتأسيساً أيضاً على هذه الخواص العالية للسمع استعمل العرب عبارة: سمعاً وطاعة، واشتهرت لديهم جملة فيها أسرار المدح كلّه «فلان بيسمع الكلمة».

ولو حاولنا المقارنة بين كتاب غازي قهوجي السابق «أركيلة الحلم العربي» وكتابه الحالي «قهوجيات.. ما هب ودب»، نلاحظ، إضافة إلى الملاحظتين اللتين أوردناهما سابقاً، أن الكتاب الحالي يتجه برمته لقضايا تتجاوز الواقع اللبناني الضيق، ويفتح شجونه على أمة برعت في تحويل إمكاناتها إلى شلل واسترخاء وكسل وبلادة، كما استطاعت بأعجوبة تحويل الأيدي المنتجة والقادرة على العمل إلى أيدٍ متسولة، والعقول المبدعة إلى ذهنية مبدعة في القنص واللصوصية.

* ما هبّ ودبّ

- غازي قهوجي

- رياض الريس للكتب ـ بيروت 2006