«نارنيا»: فيلم للأطفال يعيد إنتاج الأدب الديني

من خزانة الملابس تفتح أبواب الميثولوجيا وتضحية المسيح

TT

يمثل فيلم «نارنيا» لمخرجه أندرو آدمسون اعادة اكتشاف حاذقة، بلا أدنى شك، لعوالم الكاتب الآيرلندي سي أس لويس

(1898 ـ 1963)، وهي عوالم مؤسسة على عقيدته الدينية ورؤاه الفلسفية والأخلاقية.

تنتمي روايات الأطفال التي كتبها سي اس لويس، وعن إحداها أخذ الفيلم الذي يعرض حاليا في الصالات «نارنيا»، الى ما يسمى بالأمثولة أو القصة الرمزية وبقول أدق Allegory ، حيث تنطوي القصة على بعدين يفسر كل منهما الآخر، بعد باطني وهو فلسفي أخلاقي، وآخر شكلاني وهو سردي منسوج من الرموز. عرف هذا النوع الأدبي في الآداب الشرقية أصلا وفي ملاحم فارسية معروفة منها على سبيل المثال ملحمة فريد الدين العطار (رسالة الطير)، حيث يحاكي الشاعر رحلة الإنسان الروحية برحلة ثلاثين طيرا الى السيمرغ.

تعثر الطفلة لوسي في خزانة ملابس، على مدخل سحري يؤدي إلى عالم نارنيا الجليدي الشاسع. ليبدأ لويس حكايته، التي تحاكي الميثولوجيا المسيحية وتضحية المسيح بقصة لا ينقصها شيء من براعة الخيال، ابطالها اطفال سلبتهم الحرب نعمة العائلة، وحيوانات تتكلم وكائنات غريبة ومسوخ وشهداء. لكن السؤال المهم يبقى متعلقا بالغرض من إعادة انتاج الأدب الديني بعد أن أثبت هاري بوتر انتصاره التاريخي في جعل الغربيين ينتظرون توزيع الكتاب، كما ينتظر اهلنا الفقراء في العالم الثالث توزيع الإعانات على بأس الطبيعة. فهل يمثل الفيلم بروز قناعات جديدة عن دور الدين في الحياة العامة؟

يمكن القول بان الرؤية السينمائية التي يقدمها المخرج آدمسون لرواية لويس، هي بلاغة بصرية توازي بلاغة لويس في السرد. لكن هذا لا يجمل ـ في رأيي ـ أهمية هذا الفيلم، حيث ان أهميته الحقيقية متعلقة بإثارته الأسئلة سابقة الذكر وهي نابعة من وضعه في ميزان المقارنة مع السائد. على خلاف عوالم هاري بوتر التي تستعيد شعوذات السحرة والساحرات وأحلامهم بالقوة والنفوذ والتي تدور حول المحور الفرد (بوتر)، يقوم عالم نارنيا على مبدأ المجموع وعلى التضحية والغفران، كما لا يبدو ان هدفه المتعة والتشويق التجاري مثل سلسلة بوتر بل يهدف الى بث رسالة أخلاقية ودينية بعينها.

يختار المخرج آدمسون سماء لندن ليبدأ الفيلم بالطائرات وهي تقصف المدينة في ليلة من ليالي الحرب العالمية الثانية. تضطر السيدة بيفنسي الى ارسال ابنائها وهم ولدان (بيتر وآدموند) وبنتان (سوزن ولوسي) الى قصر البروفسور كيرك، بعيدا عن لندن المهددة. في القصر الواسع وبينما يلعب الأخوة، تدخل لوسي الصغيرة الى إحدى الغرف وترى في خزانة الملابس مكانا مناسبا للاختباء. تشق لوسي طريقها بين معاطف قديمة داخل الخزانة حتى تجد نفسها في غابة يغطيها الجليد. تقابل لوسي هناك كائنا نصفه رجل ونصفه شاة فيفزعان ويختبئ كل منهما خائفا من الآخر. بعد أن يتجرأن على التقارب والتعارف يدعو (تومنوس) لوسي الى تناول الشاي في بيته فتذهب معه وتتعرف على عالمه الساحر. وحين يبدأ تومنوس بالعزف على نايه ذي الشعاب الثلاث تنطلق الموسيقى الساحرة وتغط لوسي في نوم عميق. تفيق لوسي بعد ذلك وتجد تومنوس متهالكا على الارض وهو ينتحب فتسأله عن السبب، فيخبرها أن نارنيا ترزخ تحت جبروت الساحرة البيضاء التي جلبت معها الجليد والثلوج وجمدت كل شيء وسنت قانونا يقضي بتسليمها ابناء آدم الذين يتجرأون على دخول نارنيا، حيث ينتظرهم الموت. يعترف تومنوس للوسي باكيا بان عليه اختطافها وتسليمها الى الساحرة، فتقول له ببساطة: لكنك لن تفعل ذلك.

نعم لا يمكن لتومنوس الرقيق ان يفعل ذلك. ولا بد من الإشارة هنا الى الاداء الراقي الذي قدمه الممثل (جيمس ماكوفي) في لعب هذا الدور والتعبير البسيط الساحر عن رقة تومنوس. بدلا من الانصياع لأوامر الساحرة يقوم تومنوس بمساعدة لوسي في الخروج من نارنيا والعودة الى خزانة الملابس. تخرج لوسي من الخزانة وتعدو الى اخوتها، معتقدة انها غابت عنهم طويلا غير انها تكتشف ان اللعبة ما زالت في البداية وأنها لم تغب سوى ثوان. لا أحد يصدق حكاية لوسي عن رحلتها، خاصة آدموند الذي لا يدخر تعليقاته الجارحة، وهكذا تنشأ المشكلة بين الأخوة. يحضر البروفيسور لحل المشكلة ولا يبدو مستغربا من وجود مدخل في خزانة الملابس يؤدي الى غابة مغطاة بالثلوج. وحين يسأل البنت الكبرى سوزن عن سبب عدم تصديقها ما تقوله أختها الصغيرة تجيب: لأن هذا غير منطقي؟ فيرد البروفيسور ممتعضا: منطقي! أهذا ما تعلمه مدارس هذه الأيام؟

سيكتشف الأخوة تباعا ونكتشف معهم عالم نارنيا وقوانينه. العالم الذي أقامه سي اس لويس في خمسينات القرن الماضي وأقترحه بديلا وملجأ من سماء ملوثة بالقاذفات وأرض تخلو من الغفران والمحبة. ولن أجافي الحق إذا قلت بان رؤية هذا الفيلم والدخول في عالم لويس متعة وشيء مختلف قد يفتقد طرافة الغول شرك وحماره، ولكنه ولا شك يهدف الى ما هو أبعد من الضحك.