أمين الريحاني «جاسوس» في خدمة «الولايات المتحدة العربية»

حكم بالإعدام بلا استئناف رغم غياب الإثباتات

TT

ليست هي المرة الأولى التي توجّه فيها الى امين الريحاني الملقب بـ «فيلسوف الفريكة» تهمة من العيار الثقيل كالتي وجهتها اليه مجلة «الهلال»

في عدد فبراير (شباط) 2006. ومن المرجّح انها لن تكون الاخيرة. فالريحاني يحتل رأس قائمة الادباء المبدعين المثيرين للجدل، وقد حفلت حياته الأدبية

بسلسلة من المعارك الثقافية والسياسية، ولم تكن الاتهامات التي أطلقها خصومه عليه اقل قساوة من التي يطلقها الآن الدكتور محمد أنيس بالتكافل

* والتضامن مع الزميل مجدي الدقاق.

* في عام 1903 اصدر أمين الريحاني كتاباً بعنوان «المحالفة الثلاثية»، وقد نشرته دار جريدة «الهدى» العربية النيويوركية لصاحبها نعوم مكرزل. وفي الحال، انقسم مثقفو الجالية الشامية في الولايات المتحدة، ومعظمهم من اللبنانيين، الى فريقين رئيسيين، مؤيّد يكتب في «الهدى» الواسعة الانتشار، ومعارض يطلق النار من عدة صحف نيويوركية عربية، وفي طليعتها «المهاجر» لأمين الغريّب و«مرآة الغرب» لنجيب دياب. وأجمع خصوم الريحاني، آنذاك على اتهامه بالكفر والالحاد. واذا كان من السهل اطلاق الاتهامات، فمن الصعب اثباتها. وسرعان ما تبيّن ان بعض اصحاب الاتهام الخطير قد كفّروا الريحاني لأن مفهومهم للايمان مغاير في بعض تفاصيله عن المفهوم الذي عبّر عنه في كتابه. اما البعض الآخر، فإن خصوماتهم الشخصية مع ناشر الكتاب نعوم مكرزل، ومنهم الغريّب ودياب، قد دفعتهم على اطلاق النار، بدليل انهم يشاركون الريحاني اعتقاده.

* اتهامات ضد الريحاني بالجملة والمفرق

* وخلال الحرب العالمية الاولى، اسس الريحاني مع جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وعبد المسيح حداد ناشر جريدة «السائح» وغيرهم من اعضاء «الرابطة القلمية»، حزبا سياسياً باسم «لجنة تحرير سورية وجبل لبنان». وحين أعلنت «السائح» عن ولادة اللجنة، انطلقت الاتهامات بسرعة وحدّة باتجاه الريحاني ورفاقه، وكان قيدوم المتهمين نعوم مكرزل نفسه الذي كان صهر الريحاني، وهو من قرية «الفريكة» التي وردت كثيراً في ادبيات فيلسوفها. واصر مكرزل في سلسلة من افتتاحيات «الهدى» على اتهام الريحاني بالخيانة الوطنية. وتبخّرت التهمة، ليس فقط لعدم وجود الأدلة، بل لأنها انطلقت من خلفيات «شخصية» من مثل طلاق مكرزل من شقيقة الريحاني، و«سياسية» حيث اصر صاحب «الهدى» ورئيس «جمعية النهضة اللبنانية« على الاساس الطائفي لنظام لبنان في حال نيله الاستقلال، في حين اصر الريحاني على الاساس الوطني. فهل ترتكز التهمة الجديدة التي يطلقها الدكتور المؤرخ محمد انيس على ادلة قاطعة، فيصبح الريحاني جاسوساً لاميركا الشمالية، بعد ان كان بنظر الملايين من قرائه اديباً مبدعاً ومؤرخاً دقيقاً ووطنياً لبنانياً عربياً، منذ ان بدأ حياته الادبية والعملية في العام 1896، حتى لحظة صدور «الهلال» في شباط (فبراير) 2006؟

* شروط الوثائق والمواصفات

* فور ارتطام نظري بصورة الريحاني وهي تملأ كامل غلاف عدد «الهلال» الاخير وعبارة «وثيقة خطيرة ـ أمين الريحاني جاسوس أميركي» المكتوبة بخط كبير في اسفلها توقعت وجود ادلة حاسمة في الصفحات العشرين التي احتضنت موضوع الغلاف، بدءاً بصورة الوثيقة التي من المفترض انها مرتكز الاتهام. لكن صورة الوثيقة غابت عن الحلقة الاولى من التحقيق الاتهامي الذي ينشر على ثلاث حلقات حسب افتتاحية رئيس التحرير. فهل يتكرم الزميل مجدي الدقاق وينشر صورة الوثيقة أو الصفحة الأولى على الأقل في متن الحلقة الثانية؟ ذلك ان الصفحة الاولى، والخاصة بالمقدمة التي كتبها السفير الأميركي في بيروت الى وزير خارجية بلاده، من المفترض انها تحفل باختام وتواريخ، بعضها مطبوع والآخر مكتوب بخط اليد، ناهيك من التعريف عن الريحاني الذي يتخطى عبارة «حامل الباسبور رقم (10242) اليتيمة التي توّجت نص التقرير. أقول ذلك انطلاقاً من مئات الرسائل الدبلوماسية التي صورتها شخصياً من المحفوظات البريطانية والفرنسية والالمانية والاميركية، واحداها مرسلة من المصدر نفسه اي «القنصلية الاميركية العامة ـ بيروت ـ سورية «بتاريخ 15 ايلول(سبتمبر) 1920، اي قبل ثلاث سنوات من تاريخ الرسالة الخاصة بالريحاني. وسيلاحظ القراء، من خلال صورة الصفحة الاولى من الوثيقة المنشورة في متن هذه الصفحة الفارق الكبير بين الاختام والتواريخ والتواقيع التي تثبت حقيقتها، ورقم جواز سفر الريحاني الذي يدخل في حيّز الاثارة الصحفية.

* استنتاجات لا تستند الى مرتكزات

* مع ذلك، افترض ان مما تتضمنه الصورة العتيدة للوثيقة، العبارة التي نشرها المؤرخ انيس في مستهل العمود الاول من الصفحة 18 حيث يقول فيها السفير لوزير خارجية بلاده: «لي الشرف ان ارسل اليكم مع هذا ـ بناء على طلب امين الريحاني ـ تقريراً عن جزيرة العرب قد يكون ذا اهمية لدائرة الشرق الادنى بالوزارة».

لست ادري كيف استنتج المؤرخ الراحل من مضمون العبارة الآنفة ان اتصال الريحاني كان مباشرا بوزارة الخارجية الامريكية، وما القنصلية في بيروت سوى حلقة وصل، مهمتها تسلم تقارير الريحاني وارسالها فوراً الى الادارة الاميركية. وهب ان الريحاني كان عميلاً بخمسة نجوم، فهل يجهل السفير ذلك وهو الموثوق من وزير خارجيته اكثر من اي مخلوق آخر؟

* أين الأدلة على عمالة الريحاني؟

* وإذا كان المكتوب يُقرأ من عنوانه، فالتقرير، انطلاقاً من القسم الكبير المنشور منه، لا يتضمن ادلة على عمالة الريحاني، لذلك لجأ المؤرخ الراحل الى الاستنتاجات، ولما كانت عمالة الريحاني مؤكدة لديه، فقد انتقل الى السؤال التالي: «متى جنّد لصالح الجاسوسية الاميركية؟». وفي سياق جوابه، رجح الكاتب ان يكون التجنيد «قد حدث في الفترة الاولى من حياته في الولايات المتحدة، وبالذات بعد فشله في التمثيل». وهنا، ايضا، يلجأ الكاتب الى الاستنتاجات، خصوصا وأن جعبته لا تحتوي الا على تقرير واحد يشير تاريخه الى الفجوة الزمنية الكبيرة التي تفصل بين تعاطي الريحاني التمثيل في عام 1897، وكتابة التقرير في عام 1923، فيستنتج ان الريحاني «لا بد أن يكون جاسوسا من نوع متميز، اقصد انه لم يكن جاسوسا لحساب القنصلية السورية في بيروت. ولكن اتصاله كان مباشرا بوزارة الخارجية الاميركية». ولنفترض انه كان جاسوسا، فأين الوثائق الدبلوماسية الاميركية التي تثبت التجنيد المزعوم؟ والمحفوظات الاميركية وغيرها تعج بهذا النوع من التقارير! واين التقارير الاخرى التي يؤكد الدكتور انيس على وجودها؟ ان وزارة الخارجية الاميركية تفرج عادة عن التقارير الدبلوماسية بعد ثلاثين سنة على تاريخ صدورها، كما تفعل الخارجية البريطانية. صحيح ان بعض التقارير تبقى محفوظة لفترة خمسين سنة. ولكن تقارير الريحاني الاولى ومحضر تجنيده، المزعوم ، قد مر عليها اكثر من مائة عام. فأين هي؟ وثمة سؤال آخر: اذا كان يوجد تقارير اخرى سلمها الريحاني لقنصل اميركا في بيروت، فلماذا تبقيها الخارجية الاميركية قيد الحفظ وهي التي افرجت عن الحلقة الاولى منها؟

حفظت الخارجية البريطانية ملف القائد فوزي القاوقجي خمسين عاما، حتى افرجت عنه. ولكن، حين فعلت ذلك، لم تكتف بالافراج عن تقرير واحد من الملف، بل عن كامل محتوياته. كان من ابسط واجبات الاكاديمي والمؤرح محمد انيس أن يسعى الى التفتيش عن بقية الوثائق والتقارير الخاصة بالريحاني وتصويرها، وتوظيفها في بحثه الاتهامي، ما دام متأكدا من وجودها. فمن غير اللائق لباحث من وزنه، ان يضع رجلا فوق رجل، ويطلق اخطر تهمة ضد كاتب، كانت كتبه باللغتين العربية والانكليزية، وما زالت، متداولة من قبل الباحثين والقراء، حيث وجد من يقرأ العربية.

* تقارير مليئة بالألغام

* واذا كان مطلوبا من الباحث الحصول على اكبر كمية ممكنة من وثائق الخارجية الاميركية او غيرها من الدول، فإن التدقيق والتحفظ يجب ان يدخلا في صميم منهج الباحث الذي تقع بين يديه وثائق دبلوماسية. فهذا النوع من التقارير مليء بالالغام، وغير منزه عن الاخطاء. ولا يجوز الانطلاق منه وحده لاطلاق احكام الاعدام، حيث توجد وثائق اخرى تكون اكثر صدقية.

صحيح ان «الهلال» لم تكن الدورية الاولى التي وقعت بهذا المطب، فقد سبقتها دوريات اخرى من مثل مجلة «المستقبل» الباريسية المحتجبة. فحين عثر احد محرريها الزميل الصديق انطوان عبد المسيح على بضعة تقارير في محفوظات الخارجية الفرنسية، مذيّلة بتوقيع الريحاني وجبران وايوب تابت، وتتضمن الهدف السياسي للجنة تحرير سورية وجبل لبنان التي اشرت اليها سابقا، نشر عنها ثلاث حلقات، ولم ينسَ تتويج غلاف العدد الذي نشرت فيه الحلقة الاولى بهذا التساؤل: «هل كان جبران عميلا للفرنسيين؟». الفرق الكبير بين «المستقبل» و«الهلال» ان الاولى تساءلت واشتبهت، في حين اتهمت الثانية واصدرت حكما بالاعدام غير قابل للاستئناف، بدلا من ان تكون اكثر دقة وعدالة وموضوعية، وهي بعض المبادئ التي اتبعها مؤسسها جرجي زيدان ونجله اميل منذ تأسيسها في عام 1892 حتى تأميمها في اوائل الخمسينات من القرن الماضي.