الأميركيون يودعون رائدتهم في التحرر النسوي بتشريح معايبها

صاحبة «لغز الأنوثة» بيتي فريدان هل تستحق ما يكال لها؟

TT

أثارت مؤخراً وفاة بيتي فريدان، مؤسسة اتحاد النساء الوطني (ناو)، ومؤلفة كتاب «لغز الأنوثة»، وهي من قائدات حركة تحرر المرأة الاميركية خلال نصف قرن،

نقاشا جديدا وسط المثقفين والمثقفات في أميركا: هل تخطت حرية المرأة الأميركية الحدود المناسبة، واصبحت تهدد تماسك العائلة والمجتمع، وهل أصابت فريدان

في طروحاتها أم صبت الزيت على النار؟

عارضت مثقفات محافظات آراء فريدان الليبرالية منذ ان اعلنتها اول مرة. ولكن بدأت، خلال السنوات العشر الماضية، مثقفات ليبراليات انتقاد ما اعتبرنه حرية بدون حدود، علماً بأن فريدان لم تطالب بحرية بدون حدود. لكن اللواتي طالبن بهذا هن مثقفات اكثر ليبرالية من فريدان، على شاكلة قائدات «اتحاد السحاقيات».

اشتهرت، خلال نقاش استمر اربعين سنة في أميركا، جملة «مسح وتلميع البلاط» الواردة في كتاب «لغز الانوثة»، وذلك لأنها اساس آراء فريدان بأن المرأة اكثر ذكاء من مسح وتلميع البلاط. ودار النقاش، طوال نصف القرن الماضي حول الاسئلة الآتية: هل تعمل المراة في البيت كل اليوم؟ هل تخرج لتعمل في المكاتب والمصانع متساوية مع الرجل؟ هل تعمل بعض اليوم خارج البيت وبعضه داخله؟

بادرت فريدان واعلنت رأيها في «لغز الأنوثة» عندما وصفت حالة المرأة الاميركية قبل نصف قرن كالآتي: «نساء يقضين اليوم ينقلن اطفالهن الى المدرسة، ويمسحن ويلمعن البلاط، ويخبزن خبزهن، ويخطن ملابسهن وملابس اطفالهن، ويملأن ماكينة الغسيل وماكينة التجفيف بالملابس».

وانتقدت فريدان «زيادة صفحات المكياج والزينة والتجميل في مجلات المرأة وكأن المرأة خلقت لتتجمل. وركزت اعلانات المكانس الكهربائية على صور نساء تجملن قبل ان يبدأن كنس البيت، وكأن هذا دليل على شرف المرأة».

وصرخت فريدان معترضة حينها: «مسح البلاط ووضع بطاطا في الفرن لا يحتاجان الى ذكاء وجهد فكري، ولا يتحديان طاقة المرأة الكاملة. المرأة مخلوق بشري يجب ان يتحرر ليبدع، ولا ابداع قبل التحرر».

انقلابات من دون حدود

* فريدان لم تطلب حرية بلا حدود للاميركية. ولم تعارض عمل المرأة في البيت، كما لم تعارض انجاب الاطفال وتربيتهم، لكنها قالت ان ذلك غير كاف. وانتقدت «المرأة التي كانت تنجب طفلين، واصبحت تنجب الآن اربعة اطفال، او خمسة، او ستة. كانت تريد وظيفة، واصبحت وظيفتها الآن ادارة دار حضانة».

ومما قالته فريدان في كتابها الشهير أن «العائلة الكبيرة لا تشغل المرأة فقط، ولكن ايضا، تزيد عدد السكان». وهي إشارة منها الى نقاش دار في ذلك الوقت (قبل نصف قرن) عن مشاكل البيئة، عندما قال مفكرون وخبراء ان زيادة السكان هي من اهم المشاكل لأن طاقات العالم محدودة. ولهذا دعا المهتمون بالبيئة لتنظيم الانجاب، ودعت فريدان للتجاوب معهم.

لم تدع رائدة التحرر الأميركي حينها الى تفكك العائلة، لكنها اشتكت من «روتينية الحياة العائلية عندما تكون كلها داخل البيت»، وراهنت على شيئين ربما متناقضين:

اولا: «أن قضاء كل اليوم في البيت يقلل من قيمة المرأة».

ثانيا: «لن تستغني المرأة عن عائلتها اذا عملت خارج البيت».

معارضون متطرفون

* إثر وفاة فريدان لم يوفرها بعض معارضيها المتطرفين، وبينهم من اتهمها بأنها حسدت الجميلات اللواتي يجلسن في بيوتهن ويهتممن بزينتهن، لأنها لم تكن جميلة. حتى وكالة اسوشييتد برس، عندما نشرت خبر وفاتها، اشارت الى «قامتها القصيرة، وانفها الكبير، وعينيها الغائرتين». ومما قيل عنها انها دعت النساء لمنافسة الرجال لأنها كرهت الرجال منذ ان رفض صديقها في الجامعة ان يتزوجها بسبب قبحها (لكنها تزوجت وانجبت ثلاثة اطفال فيما بعد). وغمز بعضهم من قناتها لأنها يهودية، وهذه ظاهرة تعود الى خلاف قديم بين المسيحيين واليهود (لكن مجلة «جويش بوست» اليهودية افتخرت بيهوديتها عندما اشادت بها بعد وفاتها). وانتقد بعضهم طريقة نقاشها الحادة، وكلماتها القاسية وصراخها الذي يصم الآذان، وانتقدوا كذلك ميولها اليسارية (كادت أن تنضم الى الحزب الشيوعي الاميركي).

انتقادات متعقلة

* ولم تنج فريدان إثر وفاتها من نقد بعض المثقفات الموضوعيات أيضاً. فقد انتقدتها الصحافية لوسي فريمان، لأنها «لامت المجتمع الاميركي، ولم تلم المرأة. كان يجب ان تقول ان كل امرأة بمقدورها إسعاد نفسها بأية طريقة تراها في ظل الحرية الاميركية. لكنها قالت ان المجتمع هو سبب تعاسة المرأة، ولهذا دعت المرأة لتتمرد على المجتمع».

أما ربيكا هوفمان، استاذة في جامعة جنوب كاليفورنيا، فقد هاجمتها لأنها «انطلقت من وجهة نظر امرأة بيضاء، تنتمي الى الطبقة الوسطي، وتسكن الضواحي، وعندها زوج واولاد. ولم تتحدث على لسان امرأة سوداء عندها اولاد بدون زوج، وتسكن حيا فقيرا، وتعمل عملين كل يوم لتقدر على تربية اطفالها». وهاجمها هنري ترونوم، استاذ في جامعة نيويورك، لأنها «اعتقدت ان العمل خارج البيت يسعد المرأة، ولهذا دعت الى المساواة بين الرجل والمرأة في المكاتب. بينما كان يتوجب ان تدعو الى المساواة بين الزوج والزوجة داخل البيت، وذلك لأن الابحاث العلمية اثبتت ان المنزل والزوج والاطفال يسعدون المرأة اكثر من عمل المكاتب». وسأل ترونوم: «لماذا لا نوفر للمرأة ما يسعدها في منزلها بدلا من خلق سعادة جديدة لها في المكتب؟».

نصف الكوب الفارغ أو الملآن

* في رأي روث ماركوس، كاتبة عمود في جريدة «واشنطن بوست»، ان «نصف الكوب ملآن»، اي ان فريمان حلت بعض مشاكل المرأة، لكنها خلقت مشاكل جديدة، واضافت: «لو حلت فريمان كل مشاكل المرأة، لما استمر النقاش لخمسين سنة عن كيف توفق المرأة بين عملها خارج البيت وداخله». وأضافت ان النقاش كشف آراء غير صحيحة، ولها عواقب خطيرة، مثل القول بأن «المكتب نقيض للبيت»، وكأن الاثنين لن يجتمعا، لكن هذا القول يهدد استقرار العائلة الاميركية والمجتمع الاميركي.

واعترفت ماركوس بانها، عندما كانت في الجامعة، اعتقدت بان حرية المرأة يجب ان تكون بدون حدود، وانها تمنت الزواج، لكن بدون اطفال «حتى لا يفيض العالم بالسكان». لكن ماركوس الآن هي أم لبنتين.

وقالت ان البنتين تؤمنان بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، وبان «الكوب ملآن كله». أي انهما، عندما تكبران، ستعرفان مثل امهما بأن «نصف الكوب ملآن».

الهجوم على فريدان لم يأت من أطراف محددة، فقد واجهت أيضاً نقدا من جانب أميركيات ليبراليات متطرفات، مثل د. ماري دالي، استاذة سابقة في كلية بوسطن. فرغم انها درست في الجامعة الكاثوليكية في واشنطن، تطرفت دالي حتى كتبت كتابا عن الله وامراض النساء، وكتبت كذلك «كونتيسنس» (الاصل الخامس، الاكثر علوا) عن عقيدة تعلو على غيرها من العقائد، تؤمن بأن النساء افضل من الرجال، وان النهاية القصوى لنظرية التطور (التي وضعها شارلز داروين) ستكون انقراض الرجال، وسيطرة النساء على الحياة وعلى العالم. سألها مرة صحافي عن حلمها، فاجابت بأنه «عالم كله سحاقيات، ينجبن بدون رجال».

لكن دالي ليست وحدها، ومعها ليبراليات لا يقللن عنها تعليما وشهرة، مثل دايان بيل، مديرة قسم دراسات المرأة في جامعة جورج واشنطن، وماري هانت، مديرة تحالف المرأة الاخلاقي. وهناك، اقل تطرفا منهما، مثل كاثا بوليت، مؤلفة كتاب «النساء مخلوقات ايضا»، ونادين ستروسن، مؤلفة كتاب «دفاعا عن التعري».

عربيات معترضات على الاعتراض

* وقالت ليلى القطامي، مسؤولة الاتصالات في اتحاد الاميركيين العرب ضد التفرقة (ايه.دي.سي) في واشنطن لـ«الشرق الاوسط»، ان اغلبية المثقفات العربيات لا يرفضن رفع الظلم عن المرأة، لكنهن غير متفقات على قبول اسم «فيمينزم» (حركة مساواة الجنسين)، وأضافت «تريد مثقفات وسياسيات اميركيات نشر هذه الحركة وسط النساء العربيات. نحن لسنا ضد المبدأ، لكننا ضد الاسم لأنه يحمل تفسيرات لا نقبلها. ونحن لسنا ضد الحوار معهن للوصول الى شيء نتفق عليه، لكننا ضد فرض شيء علينا».

وقالت القطامي: «نحن هنا (ايه.دي.سي) نؤمن بحق نساء كل بلد في اختيار الطريق الذي يرونه مناسبا لهن ولظروفهن ولثقافتهم». وانتقدت القطامي كارين هيوز، مساعدة وزيرة الخارجية الاميركية، لتصريحاتها خلال جولتها الأخيرة في الدول العربية عندما تحدثت عن قيادة المرأة للسيارات، وقالت القطامي «لسنا ضد قيادة المرأة للسيارات، لكن هيوز صورت الموضوع وكأنه اهم قضية تواجه المرأة العربية. اين فقر المرأة، واين جهلها، واين الظلم الواقع عليها؟». واقترحت القطامي على المثقفات الاميركيات اللواتي يردن «مساواة الجنسين» في الدول العربية ان يدرسن الثقافة العربية، ليفهمن تماسك العائلة العربية، ودورها الاساسي في المجتمع، وقالت «اذا فعلن ذلك، ربما سيفدن النقاش الحالي عن تحرر المرأة الاميركية بالتركيز على نقطة مهمة، وهي تأثير التحرر على تماسك العائلة الاميركية».