زينب حفني ترسم «ملامح» امرأة سعودية ضلّت الطريق

أحداث تبدأ مع هزيمة 67 ولا تنتهي باحتلال العراق

TT

رواية زينب حفني الجديدة، الصادرة عن «دار الساقي» بعنوان «ملامح» يتجرعها القارئ دفعة واحدة، دون أن يشعر برغبة في استراحة. فمنذ ان تشرع في القراءة، إلى ان تنتهي، ثمة مغامرات تدور في الظلام، في الأقبية الخفية عن الأعين الفضولية. الشخصيات كثيرة، لكن الركنين الأساسيين، هما زوجان، رجل وامرأة، جمعهما بيت واحد، وأحرقهما الطمع، والرغبة في الانقلاب على الشظف، لكن الخيط القوي الذي يلم شمل مغامرتهما الزوجية الجحيمية، يبدو مشوقاً وجذاباً.

«اسمعي، انا لا اريد فضائح، لقد كتبت فيلا حي الروضة باسمك، يمكنك الانتقال اليها من اليوم، سأترك لك السيارة الكاديلاك التي اشتريتها أخيراً، بالإضافة الى أنني أودعت هذا الصباح، في رصيدك مبلغاً كبيرا من المال. أعتقد أنني تصرفت برجولة معك.

قهقهت لحظتذاك معلقة بنبرة هازئة: رجولة؟ منذ متى تعلمتها؟ هذه كلمة دخيلة على هذا البيت».

هكذا تبدأ رواية «ملامح» لزينب حفني، والزوج (حسين) يرمي ورقة الطلاق لزوجته (ثريا)، بعد أن بلغت حياتهما معاً حائطاً مسدوداً.

وإذا كانت الرواية تبدأ من حيث كان يجب ان تنتهي، فلأن زينب حفني تلعب بمهارة على حبال التقديم والتأخير في الزمن. فهي تضعنا أمام المعضلة، لتعود بنا إلى علاقة مريضة، مصابة بسوس متعدد الأنواع نخر جسد هذا البيت. فثريا عاشت مع حسين، الموظف المتواضع الدخل، وهي تشعر بامتعاض يؤهلها لأن تفعل كل شيء، كي تنتقل إلى عالم الثروات. غواية المال، جعلت الزوجين يستبيحان كل ما في حياتهما، فعلا ذلك معاً، وهما يتبادلان الازدراء. فمن دعوات المديرين إلى البيت، إلى مداهنة أي مسؤول، كانت ثريا شريكة في حكاية تسلق حسين السوداء، بينما كان ابنهما زاهر، يعاني الإهمال منزوياً في غرفته. حسين شاهد على انحراف زوجته وشريك ايضاً، لكنه لا يقبل لابنه اماً من هذا الصنف المعيب، فيعزله عنها بإرساله إلى مدرسة داخلية في عمّان. بينما تستمر ثريا في غيها بمعية زوجها، إلى ان يصبح الطلاق حتمياً.

لكن زينب حفني التي تعجن روايتها جيداً، وتجيد دوزنة احداثها، لا تريد فقط قص حكاية الزوجين المنحرفين، بل تود أن تذهب إلى جذور المأساة، وتنبش في عمق البيئة التي رعت النبتتين الفاسدتين. ثريا آتية من بيت طيب، يعرف فيه الأب كيف يحب زوجته ويحتضن أولاده رغم رقة الحال، لكن الابنة تشعر بالعار من الفقر وضيق الحال، وتتمنى لو تخرج باقصى سرعة إلى فسحة البذخ المريح. وحسين طالع من قصة ظلم حالكة بعد أن توفي والده واستولى عمه على أملاكه، وجعل من وجوده في بيته نكدا مستمراً، لولا زوجة العم، التي حفظت له بعضا من حنان. بيئتان رقيقتان، في وسط فيه من الغنى، والإغراء بالثروة، ما يحمل كليهما على سلوك طريق لا تحمد عقباه.

زينب حفني في حيلة فنية ماكرة، رسمت الشخصيتين، مع ظلال قوية لبيئتيهما، وجعلت القارئ، وكأنه يعيش في جدة مع الزوجين، أو يتنفس الظلم الذي عاناه حسين في بيت عمه في مكة.

لكن النفس الروائي لزينب حفني الذي يبدو انه يتجلى هذه المرة بما لا يقاس، بروايتها السابقة «لم أعد ابكي» يجعلها، وفي سرد ممتع، لا تتوقف عند خلفيات البيت الذي تهدم على رأس الزوجين، بل تذهب بنا لنرى معها ما آل اليه حال الابن زاهر، وما كانت نتيجة هذا التهتك الذي عاشه أبواه على مساره.

وإذا كانت الرواية تعود بنا في أحد فصولها إلى عام 1967 حينما كان والد ثريا يسمع انباء الهزيمة من المذياع، فإن الأحداث تمتد إلى ما بعد الحرب الأميركية على العراق. فابن ثريا الذي كبر وأرخى لحيته وعاد من الأردن، سرعان ما يرفض العيش مع امه ويتوجه ليجاهد في أفغانستان، ثم يحاول التسلل الى العراق حينما تبدأ الحرب الأميركية هناك، ليموت ويترك وراءه أماً، تراجع سجلها الأمومي فتجده خاوياً.

ثريا التي سافر طليقها إلى لندن ليبني حياة جديدة ينسى خلالها، سقطاته وموبقاته معها، تعيش وحيدة في فيلتها الفاخرة، تحاول ان تنتعش بمزيد من التجارة وفائض من الارباح، وبحث لا ينتهي عن رجل أو مطلق شخص يملأ هذا الفراغ الأبدي في روحها.

ثريا لن تتوب عن غيها، ولن تشعر بالتعب والانهاك، من رحلة حياتية مجنونة وضآلة، الا حين يذوي منها الجسد، وتصبح عجوزاً وحيدة، بلا مؤنس، او صديق أو حبيب.

من الصعب ان يفهم القارئ لماذا اختارت زينب حفني لهذين الزوجين المنحرفين نهايتين متناقضتين: نهاية مفتوحة محمولة بالأمل للرجل، وتراجيديا مطبقة للزوجة، رغم شراكة الاثنين. لا تقول الكاتبة، ان المجتمع يغفر للذكور مغامراتهم السوداء، ويجعل المرأة تدفع الثمن مضاعفاً. لكن ثمة في الرواية ما يشي بذلك.

رواية محبوكة بلغة رشيقة ووفق منطق زمني محكم. وقد وفقت الأديبة حين جعلت الزوجين يتقاسمان دور الراوي، هو يحكي من زاويته، وهي تروي على طريقتها. وجهتا نظر تؤججان الإحساس بأن الفرد بنجاحاته وسقطاته، انما هو ضحية نفسه، لكنه أيضا ضحية تاريخ طويل، قد لا يكون صنيعته وحده.