تبديل جلد العربية الأسمر ببشرة شقراء يحرمنا نعمة الحداثة

TT

إلى متى يظلّ العربيّ على علاقة متوترة مع لغته؟ ومتى ينتهي الصراع بين الفصحى والعاميّة؟ وما أثر اللغة في الحماية والوقاية من التبعيّة السياسيّة والفكريّة والثقافيّة؟ ومتى تحسم قضيّة تعريب العلوم وما هي الأضرار التي يسبّبها الاستمرار في اكتساب العلوم بلغات الآخرين، وهل يمكن فصل اللغات عن مكنونها الإيديولوجيّ؟ اقتراحات وإجابات عن أسئلة كثيرة أخرى مبثوثة في هذا الكتاب، الذي يشارك فيه باحثون من مختلف البلدان العربية

يلحظ قارىء كتاب: «اللغة العربية: أسئلة التطوّر الذاتيّ والمستقبل» الصادر عن «مركز دراسات الوحدة العربيّة» ان أغلب الباحثين ـ وهم من عدّة دول عربية ـ يجمعون على أنْ لا خلاص للأمة إلاّ باللغة. ولا يخوضون دفاعهم عن العربيّة بناء على علاقة صوفيّة معها بل انطلاقاً من نظرة علميّة وواقعيّة تعقد صلة متينة بين التنمية واللغة. فاللغة ليست مجرّد غلاف أو لباس لا علاقة له بالجسد وإنما هي أقرب إلى أن تكون جلد الإنسان نفسه. وهذا ما تقوله النظريّة اللغويّة التي أسّسها كلّ من العالمَين اللغويين وورف وسابير حيث اعتبرا ان العلاقة بين اللغة والفكر علاقة عضوية وان اللغة أكثر من وسيلة حياديّة وباردة بحيث إنّه يمكن استبدالها بوسيلة أخرى دون ان يؤثّر ذلك على خلايا التفكير نفسه. ولا ريب في ان تبديل جلد اللغة العربية الأسمر بجلد أشقر لا يعني إطلاقاً الدخول إلى بهو الحداثة المنتظرة. فللحداثة أبواب كثيرة ليس من ضمنها فيما يتصوّر كتّاب الأبحاث وأد اللغة العربية «العجوز» التي لم تعد قادرة على حمل الأحلام والتطلعات في نظر البعض أو إبقائها لغة طقوس وأدب والإتيان لها بـ «ضرّة شقراء» إنجليزية أو فرنسيّة للاهتمام بالوجه التكنولوجيّ من الحياة كما نلحظ في أغلب الدول العربية التي تعتمد في تدريس الموادّ العلمية على لغات المستعمر التي يعتبرها البعض «غنيمة حرب» لا يجوز التفريط بها بل لا أمل، كما يرى هؤلاء، بامتلاك العقلانيّة إلا بالحفاظ على لغة المستعمر. وهذه مشكلة تعاني منها الجزائر إلى اليوم كما ورد في بحث أحمد بن نعمان عن الازدواجيّة اللغويّة، إلا أنها مشكلة تنخر في غير بلد عربي.

من بديهيات الدرس اللسانيّ اليوم أنّ اللغة صورة عن الناطقين بها، وهي أشبه ما تكون بتلك المرآة السحريّة التي لا تكذب، وعليه فإنْ كان في العربية من ضعف فإنما هو ضعف الناطقين بها، واتهامها بأنّها هي سبب تأخّر العرب في ميادين الحضارة قول مردود يشبه إلى حدّ بعيد كلام القائلين بنظريّة المؤامرة التي تخفّف عن كاهل من يتبناها إحساسه بالذنب وتريحه من تحمّل أعباء واجباته الحضارية. فاللغة ـ أيّاً كانت ـ ليست قاصرة أو غير قاصرة، فعلم اللغة الحديث أسقط من حساباته مسألة تفاضل اللغات، وممارسة التمييز العنصريّ على كيانها ومكوّناتها باعتبارها كلّها تلبي حاجات وغايات الناطقين بها، وان كانت لغة ما تعاني من ضعف فهذا مؤشّر ـ لا أكثر ولا اقل ـ على ضعف أولياء أمرها.

من يوم النهضة والعربية تتلقّى الهجمات تلو الهجمات من الداخل والخارج على السواء. وان كانت هجمات الخارج مفهومة من حيث إنّها محاولة في تفكيك الأواصر اللغويّة التي تكفل للخارج قضم الأمّة قطراً قطراً أو حرفاً حرفاً، إلاّ أنّ هجمات الداخل أو هجمات الذين يعانون من «عقدة الخواجا» ليست بريئة لأنها لا ترى السلبيات المستقبلية المكنونة في تفاصيل دعوة احتضان لغة غير عربية للعلوم، فكثيرون قالوا ان العربية لا تلائم الحياة أو عاجزة وقاصرة لا تلبي حاجات الناس الفكريّة والعلميّة، وهذا الكلام يدحضه الواقع الراهن للدراسات اللغوية التي ازدهرت في القرن العشرين ولا تزال إلى اليوم تحتلّ اللبّ من العلوم الإنسانية في الغرب. فأغلب ما جاء به علم اللغة الحديث يناقض الدعوات التي أطلقت للتخلّى عن الفصحى وإحلال العاميّات العربية محلّها. ونرى في أغلب أبحاث الكتاب الإشارة إلى كون دراسة ظاهرة العاميّات العربيّة في بلادنا دراسة معمّقة وصائبة لا يمكن له أنْ يتمّ إلاّ بأدوات علم اللغة الاجتماعيّ الذي يعتبر أنّ العاميّات واقع لا تنفرد به اللغة العربيّة وحدها. ويرى زكريا أبو حمدية «دور اللغة في تكامل الوطن العربيّ ووحدته» ان الاهتمام بالعاميات لا يليق بالبحث العلمي فيشنّ حملة تعوزها الموضوعية على الذين يدرسون عاميّات بلدانهم من منطلق أكاديميّ وهي حملة لا تخلو من تجنٍّ خصوصاً أنّ دراسة العاميّات ذات نفع إذا ما وجّهت التوجيه الصحيح لصالح تدريس الفصحى نفسها من منطلق الدرس التقابليّ للغات بدلاً من نسف المخزون اللغوي العامي للأطفال.

لا توجد لغة في العالم لا تعاني من الفوارق الصوتيّة بين المنطوق والمكتوب، علاج المسألة لا يكمن في إزالة الفارق، فهذا ليس بإمكان أحد، وإنما في تقليص المسافة بين الطرفين. ويرى أغلب الكتّاب الذين عالجوا مسألة العاميّات والفصحى ان ظاهرة تفشي الأميّة في العالم العربي هي وراء هذا التباعد الفائض والمرضيّ بينهما. وهذا التباعد في المسافة يكبر أو يضمر تبعاً لمنسوب الأميّة في هذا البلد أو ذاك. وأيّاً كانت الحال فإنّ القضاء على التفاوت الصوتيّ أمر لا يمكن تحقيقه، وهو ملحوظ في كلّ اللغات التي تحتلّ حيّزاً جغرافيّاً واسعاً فالإنكليزيّة البريطانيّة والأمريكية والاسترالية ليست واحدة، وهذا ما نراه أيضاً بين فرنسيّة أهل كيبك وفرنسيّة أهل فرنسا، بل تشكو كيبك من أنّ أفلامها غير مرغوب فيها في فرنسا وإن انتسبا للغة واحدة وليس ذلك بسبب مواضيعها مثلاً وإنما بسبب التفاوت الصوتيّ بين الكندية والفرنسية.

ويتطرّق أكثر من كاتب، شارك في المؤلف، إلى مسألة الحرف العربيّ، وإنْ كانت الدعوة إلى إبداله قد خفّت كثيراً إلاّ أنها في عالم الواقع بدأت تطلّ برأسها على مستوى التطبيق لا على مستوى التنظير وذلك من خلال الرسائل الالكترونية عبر الانترنت أو عبر الهواتف الجوّالة التي يكتبها جزء من الشباب بالحروف اللاتينية، ومن الخطأ اعتبار هذه المسألة عابرة لا اثر لها على علاقة العربي مع لغته. فالحرف ليس مجرّد شكل بل هو يضمر أغلب الأحيان موقفاً ايدولوجياً أيضاً فالكتابة بالحرف اللاتيني في تركيا على سبيل المثال كان بالتأكيد أكثر من مجرد تبديل ملابس اللغة.

ويتناول الباحث احمد بن نعمان وغيره عملية تدريس الموادّ العلميّة بغير العربيّة، معتبرين أنّ ذلك أحد أسباب ضعف العربيّة، لأنّه يحرم العربيّة بإرادة بنيها «المصل» الضروريّ لصحتها. ويشير رياض قاسم في بحثه «قومية الفصحى والمجتمع: تحديات الحاضر والمستقبل» إلى أنّ تعليم المواد العلميّة بالعربيّة يؤدّي إلى تحسين النتائج في الامتحانات فوفق دراسة ميدانية أجريت في الأردن تبين ان نسبة الرسوب بين طلبة السنة الأولى الذين درسوا كتاب البيولوجيا (علم الأحياء) بالإنجليزيّة كانت 26 بالمائة بينما كانت نسبة الرسوب بين طلبة السنة التالية الذين درسوا الكتاب نفسه مترجماً إلى العربية انخفضت إلى 4 بالمائة. ويرى الكاتب أنّ عمليّة التعريب يجب أنْ تكون كاملة بمعنى عدم الاكتفاء بتعريب قسم دون قسم، ولا بدّ لإنجاز التعريب من قرار سياسيّ شجاع على مستوى الأمّة العربية جمعاء، تؤازره وترافقه في الوقت نفسه ثورة بكل معنى الكلمة على صعيد الترجمة، وهنا يذكر أكثر من كاتب تجربة إسرائيل واليابان والصين، وهي تجارب أثمرت نهضة علمية فذّة لا يشكّ أحد في طيب ثمارها، مع اعتمادها الكلّي في التعليم على لغاتها. ولعلّ المقارنة الأفجع هي حين نقارن بين لغة أخرجت من لحدها وطقوسها الدينيّة وهي اللغة العبرية ولغة يراد وأدها والتخلص منها وهي لا تزال حيّة في مجالات كثيرة أو حصرها في الحيّز الطقوسيّ الضيّق. لا ريب في أنّ دراسة مسار العبريّة والجهود الكثيرة التي كرست وبذلت لبناء مناهج حديثة وسريعة في تعليمها تزوّد العربيّ الحائر في إيجاد العلاجات لها بطرائق ووقائع لا مجال لدحضها خصوصاً أنّ العبريّة على صلة متينة مع العربية من حيث كونها تنتمي مثلها إلى فصيلة اللغات السامية، واعترضتها المشاكل نفسها التي تعترض اليوم مسير اللغة العربية واستطاعت التغلّب عليها وإيجاد الحلول العملية لها لأنّ حياتها كانت بمثابة الوطن الروحيّ لليهود ويقول الإسرائيليّ إيرماي: «ان انبعاث إسرائيل وسرعة تطوير العلوم والتكنولوجيا بها، لا يمكن تحقيقها بدون لغة مشتركة كأداة في تبادل الأفكار الحديثة». وهنا نلحظ ان إسرائيل ربطت العلوم والتكنولوجيا بلغتها هي وليس بلغات الآخرين، ولا ريب في أنّ إنجازاتها التكنولوجيّة الراهنة يعود الفضل في بلورتها إلى العبرية نفسها، ونظرتها هنا هي بخلاف الممارسة السائدة في العالم العربيّ التي تعول على نهضتها التكنولوجيّة المرتجاة على لغات لا تربطها بها صلة روحية. وإنّ مقارنة بين «مجمع اللغة العبريّة» والمجامع العربيّة المتعدّدة المنتشرة في غير بلد عربي يظهر رتابة المجامع العربيّة إزاء المجمع العبريّ و«اللجنة المركزية للمصطلحات التقنية» المتفرّعة عنه العاملة على توطين وتدجين مفردات التكنولوجيا الحديثة.

يخرج القارىء من الكتاب بفكرة مفادها ان التنمية ومعانقة العصر والتخلّص من التبعيّة والاستلاب والتغريب، والنهوض لن تكن إلا بصياغة أيديولوجيا واضحة ومزدوجة لحمتها التعريب وسداها الترجمة حتّى لا يظلّ المعنى العربيّ تائهاً في أبجديّات الآخرين.