عبقرية الرؤية الحضارية المتجاوزة

600 سنة على رحيل ابن خلدون.. إعادة نشر المقدمة في بريطانيا

TT

تحتفل الاوساط العلمية والثقافية بمرور 600 سنة على رحيل ابن خلدون، الذي يحتل مكانا بارزا لدى علماء التاريخ والمستشرقين،

ويحظى باهتمام بالغ من قبل الغرب الذي دأب على نشر اعماله، خاصة مقدمته الشهيرة.

هذا الاسم «ابن خلدون» من الاسماء التي ينبغي ان تذكر، ولكن قبل قرنين من الزمان نسي هذا المؤرخ الذي عاش من عام 1332 وحتى 1406، في الجزء الغربي من العالم الاسلامي، الا من طلبة العلم. في القرن السابع والثأمن عشر منح علماء ورجال الدولة العثمانية بعض الاهتمام الجدي لابن خلدون، وبقي الحال لم يتغير حتى اكتشف من قبل الغرب. ففي ستينات القرن الثأمن عشر ظهر في ترجمة فرنسية كاملة لمقدمته، وكذلك المجلد الاول من مجلداته السبعة لتاريخ العالم نشرت جميعها من قبل وليم ماكوغن دي سلين، كما ان مقتطفات من المقدمة نشرت في انجلترا عام 1922، وفي المانيا عام 1932. اما الطبعة الانجليزية الكاملة فقد ظهرت عام 1958. ولكن في عام 1932، اشار هاملتون جيب، الذي اصبح رائد الاستعراب البريطاني الى ان اربع دراسات علمية في ابن خلدون ظهرت قبل ذلك بعامين.

بعد ذلك اخذت المطابع ودور النشر الاوروبية لا تتوقف عن نشر كل ما يتعلق بابن خلدون ومقدمته، وانتشرت الدراسات الاكاديمية والرسائل الجامعية حوله واصبح لاسمه حضور واسع في المحافل العلمية العالمية والتراثية، خاصة البريطانية التي تعتبره احد رواد التاريخ العلمي والاجتماعي والاقتصادي.

وخلال هذا العام تمر الذكرى الستمائة على وفاة هذا العالم الجليل، وبهذه المناسبة قامت بعض دور النشر باعادة نشر طبعة بروزنتال التي صدرت عام 1967، لمقدمة ابن خلدون، لكن بمقدمة جديدة كتبها بروس . ب. لورنس، تذكر القارئ بأن ابن خلدون لم يكن رجل تاريخ وقانون واجتماع فحسب، بل اديب ايضا، يولي اهتماما خاصا للمفردات وكيف يمكن لمعانيها ومضامينها ان تتغير تبعا للزمان والمكان والسياقات، ولها شأن خاص في صياغة المصطلحات كمفردتي العصبية والعمران وغيرهما.

وفي هذه المقدمة يظهر لورنس بانه واثق جد من نوعية ترجمة فرانس رونتال العالية ويحث القارئ على قراءة هذا النص ويقول: «سوف تلمس فيه اعجوبة الرؤية الحضارية التي تتجاوز الزمان والمكان لأنها تستدعي يقظة وانتباه الجميع».

يصف العالم الاجتماعي الانجليزي ارنولد توينبي، انجاز مقدمة ابن خلدون ويقول بأنها «اعظم مؤلف من نوعه، لم يقم بانجازه اي عقل من قبل في اي زمان ومكان»، ولعل ابن خلدون قد وقف في مقدمته على رأس القائمة التي تضم مؤرخين كبارا امثال الطبري، مسكويه، الجويني والمسعودي.

في بداية القرن العشرين انكب علماء «فرانجي محل» في لوكنو ـ الهند بهمة ونشاط على مناقشة ابن خلدون ضمن سياق ازدهار ونمو افكار القومية الاسلامية، وكان المرجع الاساس لمعارفهم في هذا الموضوع هي طبعة بولاق المصرية لعام 1874، وربما احدى الطبعات التركية لابن خلدون.

من هنا نجد اي مركز مرموق كان يتمتع به ابن خلدون في الاوساط العلمية والاجتماعية العالمية. وفي سيرة حياته الشخصية التي توصف بانها اكثر سير الحياة تفصيلا في ادب العصر الاسلامي الوسيط نعلم ان ابن خلدون كان ينتمي الى عائلة يمنية عربية استقرت في منطقة اشبيليا بعد فتح المسلمين للاندلس في القرن الثأمن. وحتى القرن الثالث عشر كان ابناء عائلته ينتسبون الى قادة الثقافة والسياسة في المدينة. وقبل استرجاع الاوروبيين للاندلس بفترة قصيرة غادرت عائلته اشبيليا متجهة نحو غرب افريقيا، فاستقرت في تونس وقامت بتأسيس وتطوير شبكة ثقافية وسياسية عبر المنطقة.

ومع ان والده كان يفضل اتجاهه نحو العلوم والثقافة على السياسة، فان فكر ابن خلدون كان مشبعا بتقاليد العائلة التي كانت قريبة الى السلطة لفترة تزيد على الخمسمائة سنة. استقى ابن خلدون ثقافة اسلامية كلاسيكية وتربى على يد ابرز علماء شمال افريقيا، اضافة الى دراسته للفلسفة. دخل ابن خلدون الحياة العامة عام 1350، وعمل في عدة بلاطات حتى عام 1375، وكان تأثيره كبيرا اينما ذهب. لقد كان موضوعا لاثارة اضطرابات غير اعتيادية بهذه البلاطات الاستبدادية. وكان احيانا يحل سجينا لديها واخرى منفيا او مهددا بحياته.

وكانت رغبته في ان يكون حرا من كل هذا القلق قد قادته عام 1373 على الاستقالة من الحياة العامة، حيث استطاع خلال اربع سنوات من كتابة مؤلفه «تاريخ العالم»، وفي عام 1382، وخوفا من مكائد الاعداء، سواء على الصعيد العلمي او السياسي، انتقل ابن خلدون الى القاهرة، وهناك نال سريعا حظوة وايثار السلطان المملوكي برقوق له، وفي عام 1400 بدأ في مغامرة حينما صاحب، وبطلب من السلطان المملوكي الناصر حملته لتحرير دمشق من الحصار الذي فرضه عليها القائد المغولي تيمور لنك وحالما وجد نفسه متحررا من قبضة السلطان انضم ابن خلدون الى قضاة دمشق في المفاوضات حول الشروط غير المرضية في حصار المدينة. ولكن اخيرا، سأل تيمور لنك بشكل خاص ان كان بمقدوره مقابلته، وبعد ان انزل ابن خلدون بواسطة حبل من اسوار المدينة واتجه الى معسكر تيمور لنك، جرت مقابلة مهمة استمرت ستة اسابيع بين اكثر العلماء موهبة في عصره واكبر فاتح في عصره. طبقا برواية ابن خلدون فانهما ناقشا شؤون بلده الذي كتب عنه تقريرا لتيمور لنك، ثم تحدثا عن ابطال التاريخ، والتنبؤ بقدوم الاشياء والخليفة العباسي، وعما اذا كان ابن خلدون يود الانضمام الى بلاط تيمور لنك مقابل العفو والامان له ولمصطحبيه. في الختام منح ابن خلدون العفو والامان، وعاد الى القاهرة، حيث مات ودفن عام 1406.