«العراق يحترق».. عنوان منحاز لكتاب محايد

شهادات ميدانية من مدن العراق الغربية والجماعات الإسلامية

TT

مؤلف هذا الكتاب من الأوائل الذين دخلوا العراق بعد سقوط النظام، حاملاً في ذاكرته صلة مراسلة بينه وبين أحد شباب الفلوجة قبل خمسة وثلاثين عاماً. وصل إلى أرض صاحبه الذي لم يره من قبل، وتعرف عن كثب على أعضاء في الحركات المسلحة الإسلامية، ناقلاً ما سمعه وما رآه من مفاجئات، قد تؤثر في أقسام ليست قليلة من الرأي العام العربي، الذي ظل مؤيداً لصدام حسين، بلا أية رؤية عقلانية، أو مقاربة من داخل الحدث. وما اكتشفه المؤلف أن عدداً كبيراً من أهل العوجة، قرية صدام حسين، لا يطيقون رئيس العراق السابق، وكان يتمنون زواله، وكذلك حال تكريت وغيرها من مدن غرب العراق.

كتاب «العراق يحترق»، مع عنوان شارح «شهادات من قلب المقاومة» للكاتب والصحافي الفلسطيني زكي شهاب (رياض الريس للكتب والنشر 2006) غني بتفاصيل متنوعة ومعقدة ومثيرة، تحمل تعكس مفارقات الشأن العراقي ومفاجآته. وجاء الغالب من مادة الكتاب، ذي التسعة فصول والثلاثمائة صفحة من الحج المتوسط، من معايشة مؤلفه المادية.

ومطاردة الحدث والكتابة عنه ليسا جديدين على مؤلف الكتاب، فطالما زود الصحافة بصور حيَّة من قلب أحداث الجزائر 1993، وأفغانستان، وباكستان وغيرها من المناطق الساخنة. كان ينام في الفلوجة بنصف عين خشية من مباغتة عملية إرهابية أو اجتياح دبابة أميركية للمنزل الذي يأوي فيه. وجد مسلحين عديدين أفرحهم اعتقال صدام حسين في 13 ديسمبر (كانون الأول) 2003، لأن كل عملية كانوا يقومون بها كانت تكرس قيادته الموهومة، أو تنظيم البعث، الذي أعاد تشكيل نفسه، من دون توافق كلي مع المسلحين الآخرين.

في فصلين غزيرين تحدث المؤلف عن الحركة الإسلامية المسلحة، وما يجمعها من قواسم مشتركة، وما تختلف حوله. وكيف أن المد السلفي لم يكن وليد الاحتلال، بقدر ما أظهره الاحتلال إلى السطح، ودفعه إلى رفع السلاح وإعلان ساعة المواجهة، تحت شعارات كبيرة ومثيرة مقاومة الغزو والحرب الصليبية، وما شاكلها.

وبالمقابل وجد أغلب العراقيين قد أفرحه سقوط دولة البعث بهذه الطريقة أو غيرها، وإن كان للفرح درجات. لكن تخبط الأميركان، وفضائح التعذيب بالسجون، والظهور في الساحات والطرقات بدرجة قصوى من العنف، أدى إلى تضاؤل تلك المشاعر، وشجع الانخراط في العمليات المسلحة ضدهم. صاحب ذلك قرارات حمقاء من وزن حل الجيش العراقي، ليصبح حوالي نصف مليون عسكري عاطلين عن العمل، يقفون لأيام وأسابيع بانتظار جزء من رواتبهم، أو البحث عن أعمال مدنية أخرى. ثم جاء قرار اجتثاث البعث، الذي ضاعف الحماس للانخراط في العمليات العسكرية.

سأل المؤلف أحد المقاومين، أو الحامين لهم، عن استهداف المدنيين وأقسام الشرطة، فرد قائلاً: «إن تحذيرات تُنشر في بغداد ومدن أخرى، طالبة من المواطنين العراقيين الابتعاد عن قوات الاحتلال والدبابات المصفحة، وبهذه الطريقة تستطيع خلايانا المقاتلة تنفيذ عملياتها الاستشهادية من دون إلحاق الأذى بالمدنيين. بيد أننا لن نشعر بالذنب إذا قُتل أي من مواطنينا المتعاملين مع الأميركيين أو العاملين معهم». وهنا لا يحسب المسلحون حساب الفوضى، ومحدودية نشر البيانات، ولهذا يعد هذا التصريح إصرارا على القتل الجماعي.

وقال محمود الندا، رئيس عشيرة البيجات بتكريت، بعد أن طلب منه المؤلف إجراء مقابلة: «ابحث عن المنزل الأكبر في القرية وستجدني.. بيتي أكبر من بيت صدام حسين»! كان هذا قبل إلقاء القبض على صدام في الحفرة المشهورة، وعندما سأله عن مكانه، قال: «أنا متأكد أنه مختبئ في مكان ما في هذه القرية». تدلك الإجابة على أنه لم يعد مهموماً بمصير صدام حسين، وأن الرئيس السابق مجرد تابع من أتباع عشيرته لم تزد الرئاسة فيه شيئاً، إلا أنه من الصعب التنازل عن عُرف العشائري ليحصل على الخمسة والعشرين مليون دولارً، ويدل على مكانه، مع أن آل الندا نكبوا بغدر صدام حسين، عندما اغتال محمد بن أحمد حسن البكر (1978)، وقضى على زوجته وأختها وهما بنات آل الندا.

بعد قراءة الفصلين الخاصين بالمقاومة الإسلامية، يتأكد لنا وجود الأردني أبو مصعب الزرقاوي حقيقة لا أسطورة، كما يذهب الكثيرون، ويعتبرونه وهماً أميركياً. يقول من قلب الحدث: «أنشأ أبو مصعب الزرقاوي، الناشط الأردني، قاعدة قوية في الفلوجة، بالقرب من الرمادي، هذه المدينة التي التقيت فيها للمرة الأولى بعناصر مجموعة من المقاومة. وقد ترقى الزرقاوي في صفوف القاعدة «فشرفه» أسامة بن لادن بمنحه لقب أمير «القاعدة في بلاد الرافدين». ونجح رجال بن لادن في العراق بتجنيد مئات العراقيين، ما لم يكن الآلاف منهم، إضافة إلى عدة مئات من المقاتلين من دول عربية أخرى». ومع ذلك قلل المؤلف من عدد المقاتلين أو الانتحاريين العرب بالعراق، على خلاف ما تقدمه وسائل الإعلام، وتقارير الحكومة العراقية من أن عددهم أكثر من ثلاثة آلاف.

نقل أحدهم للمؤلف وصفاً دقيقاً للقائه بأبي مصعب الزرقاوي، أمير حركة التوحيد والجهاد، وكيف حول الأرض الزراعية، الواقعة خلف ما عُرف بالمثلث السُنَّي، إلى أرض محروسة ومحكمة، ومعظم حراسه عراقيون. وهو يتخذ من غرفة طينية، لا تلفت النظر، غرفة عمليات، ويتكلم بهدوء ويتمتع بعقلية متوازنة، ويحفظ الأسماء، ويتعرف على مَنْ مر به سابقاً وإن كان متنكراً. ويكثر من تلاوة القرآن، والإصغاء إلى محاضرات إسلامية مصورة، ومتابعة الأخبار، إضافة إلى ذلك أنه صاحب العقل المدبر لعمليات الموت، وقطع الأعناق، وإلحاق الأذى. وهناك تفاصيل أخرى نظرها زكي شهاب عن قرب تؤكد وجود الزرقاوي، وأنه ليس أسطورة، وكل قطع رقبة بدم بارد ربما كان من تدبيره المباشر.

يستهل المؤلف الفصل الثاني من الكتاب «مقاتلون أجانب» بتكليف تلقاه من صديق للمساعدة في البحث عن شاب اسمه زياد الجراح، يعيش بألمانيا، وجندته «القاعدة» لصالحها، ثم كان أحد ربابنة الطائرات التي هاجمت نيويورك في 11 سبتمبر 2001. لكن طائرته لم تصل الهدف، وإنما سقطت في حقل من حقول بنسلفانيا الأميركية. كان هذا المستهل مدخلاً مثيراً لقصة المقاتلين الأجانب بالعراق، وكيف كانت حركة أنصار الإسلام الكردية هي مضيفهم الأول، وكيف حولت تلك الجماعة وديان المنطقة إلى إمارة طالبانية، ففرضوا الحجاب على النساء، ومقاسات للحي، وإشاعة مظاهر العبادة على طريقتهم، وأخد الجزية من غير حركتهم وإن كانوا مسلمين. إلا أن التفاف الميليشيات الكردية والطائرات الأمريكية شتت أعضاءها، ودفع بهم إلى داخل الأراضي الإيرانية.

ويؤكد المؤلف أن جماعات من هؤلاء المقاتلين الإسلاميين دخلوا العراق بتنسيق مع النظام السابق، وقد احتفظت دوائر الأمن بجوازاتهم، وكانوا مستعدين لمعركة فاصلة مع «الصليبيين». لكن بعد انهيار الجيش العراقي، وانسحاب البعثيين إلى بيوتهم ومخابئهم شعر هؤلاء أنهم بلا هدف، وبلا جوازات سفر ومواطنة. ووجدوا أنفسهم عاجزين عن العودة من حيث أتوا «لذا لجأوا إلى صفوف الجماعات المتمردة المطلقة العنان في البلاد. وكانت جماعة أنصار الإسلام من تلك الجماعات».

في فصول الكتاب الأخرى تابع المؤلف الشأن الشيعي والكُردي، ودور المؤسسة الدينية، من مرجعية وهيئة علماء المسلمين، وهما مختلفان بطبيعة الحال، ولا نعني الاختلاف البداهي المذهبي، كون الأولى شيعية والثانية سُنَّية. بل هما مختلفان، كما هو معروف، حول تقويم الوضع العراقي، وحول مستقبله السياسي، فالمرجعية مالت للتهدئة، ووجدت بسقوط النظام الخلاص من اضطهاد للشيعة وتهميشهم، الذي استمر عقوداً من تاريخ الدولة العراقية، بلغ ذروته في العقود الثلاثة الأخيرة.

خلا ذلك بحث الكتاب علاقة العراق بجيرانه، من محيط عربي وتركي سُنّي وآخر إيراني شيعي، ثم تحدث عن الأواصر العراقية الفلسطينية تحت عنوان «الرابط الفلسطيني»، متناولاً مساوئ حكومة البعث إزاء القضية الفلسطينية، وخطأ الفلسطينيين في محاباة تلك الحكومة، والاستمرار في ذلك، مع أن المؤلف وقف على كراهية هذه الحكومة وسط تكريت وقرية صدام حسين «العوجة» نفسيهما. وهذا ما يذكر بالوقف الفلسطيني الخاطئ في الوقوف مع صدام حسين أوان احتلال الكويت.

ختاماً، تبقى الإشارة إلى عنوان الكتاب «العراق يحترق»، وهو قد لا يطابق كل ما ورد في المتن، لكن للناشرين طرائقهم في الإثارة. فقد نظمت ثلاثة انتخابات، مرت بنجاح، وتحسنت أحوال العراقيين الاقتصادية، وهم يتمتعون الآن بحرية ليست لها حدود، حسب مشاهدات المؤلف، وكل هذا لا يقودنا إلى الاستنتاج بأن العراق يحترق.