الحياة الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع العربي والإسلامي

TT

الدراسات الاقتصادية والاجتماعية لتاريخ المجتمع العربي الاسلامي في العصر الوسيط لا تزال قليلة، فقد اهتم بعض المؤرخين العرب المعاصرين

بهذه الجوانب من التاريخ العربي الاسلامي، ولكن هذا الاتجاه بقي في الاقطار العربية حتى اليوم ضعيفا، بل قل نادرا، وما زلنا نعتمد اساسا

في ميدان الابحاث الاقتصادية والاجتماعية للتاريخ الاسلامي على اعمال بعض المستشرقين والمؤرخين الاجانب.

اذا حاولنا ان نتعرف على اهم ما نشر حول هذه التاريخ العربي والإسلامي منذ الحرب العالمية الثانية، فإننا نجد اغلبه يتناول المشرق الاسلامي، اما المغرب الاسلامي الوسيطي فقد حظي بدراسات جدية خلال السنوات الاخيرة كشفت عن قضايا مهمة، ذات شأن كبير في تاريخ المغرب العربي. ان مصادر التاريخ الاقتصادي والاجتماعي التي نشرت في السنوات الاخيرة والمتعلقة بالعصر الوسيط قليلة جدا. وقد اعتمد الكاتب اولا وعلى وجه الخصوص على المصادر المعروفة، ولا سيما كتب الجغرافيين العرب، وعلى دراسة المدينة الاسلامية المغربية حسب اساليب المنهجية الحديثة في دراسة المدن بصفة عامة.

ان الصعوبات التي اعترضت طريق الكاتب متعددة، نذكر منها بعض النماذج لابراز نوعية القضايا المتعلقة بالخصوص بالتاريخ الاقتصادي والاجتماعي:

اولا: جزئية المعرفة، فالتاريخ العمراني الذي يشغل بال الباحث في هذه الدراسة يكاد ينحصر في حياة المدينة، ولكن سكان المدن لا يمثلون الا نسبة قليلة من مجموع سكان المجتمع العربي الاسلامي، وهي قضية لا تهم العصر الاسلامي فحسب، بل اعترضت الدارسين للعصور القديمة مشرقا ومغربا. ان التاريخ الجزئي هذا، وهو ما تسمح به المصادر المعروفة حتى اليوم قد جعل بعض المراجع تقع في خطأ منهجي واضح يتمثل في الحكم على الكل من خلال الجزء. ومن المعروف ان هذه الامثلة الجزئية الدقيقة تطرح اليوم على جميع المؤرخين في شتى مجالات ابحاثهم قضية نظرية تتصل بنسبية حقل اختصاصهم: علم التاريخ.

ثانيا: ان المدينة مرتبطة بالريف ارتباطا عضويا.

ان هذه المعرفة الجزئية نجدها داخل المدينة نفسها، فالجغرافيون العرب يتحدثون عن احياء معينة حين يشيرون الى المنازل الرفيعة، والمباني الحسنة في سجلماسة، او في اودغست، او الى قصور الفئات الجديدة وبساتينها في تاهرت، اما احياء طبقة العامة، والنازحين من الريف فلا تعرف عنها شيئا يذكر.

ثالثا: ان للتيارات المذهبية والفكرية في حياة المدينة العربية الاسلامية شأنا كبيرا في التاريخ الثقافي، وهي تمت في الوقت نفسه بصلة وثيقة الى التاريخ الاجتماعي، ولكن ما نعرفه من تيارات يعكس مذهبية الفئات الاجتماعية المسيطرة بالدرجة الاولى.

تناول الكاتب ثلاث دراسات في هذا النموذج وقد مثلته المدن المغربية التالية: تاهرت، وسجلماسة، واودغست، وقد كان لها دور حاسم في التحام الواجهة الصحراوية بالواجهة البحرية في عصور ازدهار العمران ببلاد المغرب عبر شبكة من المسالك التجارية النشطة بين الشمال والجنوب واعتمدت التجارة الكبرى الكأمنة وراء ازدهار المدن، وسرعة تطورها على بضاعتين ثمينتين من بضائع العصر: الذهب والرقيق. ومن مميزات هذه المدن ارتباطها ارتباطا وثيقا بالعصبية القبلية سياسيا ودينيا واقتصاديا، وعندما نقول: ان نموذجا معينا من المدن العربية الاسلامية مرتبط بالعصبية القبلية، كما هو الشأن في عدد من المدن المغربية، فإن ذلك يطرح اشكالية العلاقة الجدلية بين المدينة والريف ومن هنا كان البحث الاخير في القسم الثاني من هذه الدراسة عن العلاقة الجدلية بين المدينة والمجتمع الريفي، منطلقا من المقولة الشهيرة لابن خلدون في المقدمة:

«ومما يشهد لنا ان البدو اصل للحضر، ومتقدم عليه، أما اذا فتشنا اهل مصر من الامصار وجدنا اولية اكثرهم اهل البدو الذين بناحية ذلك المصر، وفي قراه، وانهم ايسروا فسكنوا المصر، وعدلوا الى الدعة والترف الذي في الحضر، وذلك يدل على ان احوال الحضارة ناشيءة عن احوال البداوة، وانها اصل لها، فتفهمه».

انه من المعروف ان ظاهرة الانحسار العمراني في بلاد المغرب قد بدأت تبرز سماتها في القرن الخامس للهجرة لتبلغ اوجها في القرن الثأمن، اي في عصر ابن خلدون، وقد حاول تفسيرها ليس كمؤرخ فحسب، بل كشاهد عيان، فقد تفطن الى ظاهرة انتقال الثقل الحضاري الى فضاء جغرافي جديد، هو فضاء الضفة الشمالية للبحر الابيض المتوسط، وقد برزت في القرن الثأمن الهجري ـ الرابع عشر الميلادي بوادر النهضة الاوروبية، وازدهار المدن الايطالية بصفة خاصة قائلا: «فالذي نشاهده لهذا العهد من احوال تجار الامم النصرانية الواردين على المسلمين في المغرب في رفههم، واتساع احوالهم اكثر من ان يحيط به الوصف...».

ان النخب تدرك جيدا قديما وحديثا ظاهرة التدهور التي تعيشها بلدانها، ولكنها تذهب مذاهب شتى في تفسيرها.

تحاور الناس ايام ابن خلدون حول اسباب الظاهرة، فأعطى المنجمون السبب النجومي، ولا نغفل عن التذكير هنا بأن القرن الثأمن الهجري ينتسب الى عصر تدهور الفكر العربي الاسلامي. وابن خلدون هو العلامة المضيئة فيه، ويمثل حالة نادرة، ان لم نقل فريدة، دحض بلباقة السبب النجومي الذي تناوله حوار النخبة يومئذ ليعطي السبب الارضي فصدع بمقولته الشهيرة «وكثرة العمران تفيد كثرة الكسب بكثرة الاعمال التي هي سببه».

ولما فقدت بلاد المغرب الدينامية العمرانية تدهورت احوالها، وخف سكانها وتناقص عمرانها، وتلاشت احوال اهلها، وانتهوا الى الفقر الخصاصة، وضعفت جبايتها، فقلت اموال دولها، بعد ان كانت دول الشيعة وصنهاجة بها على ما بلغك من الرفه، وكثرة الجبايات، واتساع الاحوال في نفقاتهم واعطياتهم، حتى كانت الاموال ترفع من القيروان الى صاحب مصر لحاجاته ومهماته، وكانت اموال الدولة بحيث حمل جوهر الكاتب في سفره الى فتح مصر الف حمل من المال يستعد بها لارزاق الجند، والاعطيات ونفقات الغزاة «كما جاء في المقدمة».

هكذا اصبحت احوال المغرب العربي «بعد ان كان عمرانه متصلا من البحر الرومي الى بلاد السودان في طول ما بين السوس الاقصى وبرقة، وهي اليوم كلها او اكثرها قفار، وخلاء، وصحارى الا ما هو منها بسيف البحر، او ما يقاربه من التلول»، كما يقول صاحب المقدمة، وذهب الكاتب في بحثه عن الاقطاع في المجتمع العربي الاسلامي مذهبا آخر في تفسير ظاهرة تدهور المدينة العربية الاسلامية في المشرق، وقد ادى التدهور الى انهيار المجتمع كله ابتداء من القرن السادس الهجري بصفة خاصة، ورأى ان طغيان ظاهرة الاقطاع العسكري مع استيلاء السلاجقة على السلطة يمثل عاملا حاسما من عوامل التدهور، ويمدنا تلميذ ابن خلدون المقريزي في كتابه الخطط بنص ثمين يربط بين كثرة الخوف من العسكرية والخراب الذي اصاب مصر في منتصف القرن الخامس الهجري فيقول: «ثم دخل امير الجيوش بدر الجمالي مصر في سنة ست وستين واربعمائة، وهذه المواضع خاوية على عروشها، خالية من سكانها وانيسها قد ابادهم الوباء والتباب، وشتتهم الموت والخراب، ولم يبق بمصر الا بقايا من الناس كأنهم اموات قد اصفرت وجوههم، وتغيرت سحنهم من غلاء الاسعار، وكثرة الخوف من العسكرية..».