شكل جديد بين الهايكو اليابانية ورباعيات الخيام

«كتاب الكتاب» لجمال جمعة في ترجمة إنجليزية

TT

في اواخر القرن التاسع عشر عندما اكتشف الشعراء العرب أدب الآخرين كان التأثير عليهم هائلا وقد استمر حتى يومنا. وكان هذا حتميا ذلك أن الشعر العربي والأدب عموما ظل، منذ القرن الثاني عشر، نظاما منغلقا مطوقا بالعزلة.

وشأن كل الأنظمة المغلقة كان عرضة لأن يصبح خاضعا للقانون الثاني للديناميكا الحرارية.

وكان المحفز الأول على هذا قدمه الشعر الفرنسي الذي واصل وجوده الفعال في وعي كثير من الشعراء العرب المعاصرين حتى يومنا الحالي. وقد شهدنا جميعا حالات التقليد التي لا نهاية لها لغيوم أبولونير وسان جون بيرس ولويس أراغون وبول ايلوار التي مارسها الشعراء العرب خصوصا منطقة البحر الأبيض المتوسط. وفي وقت لاحق جاء دور تي. أس. اليوت وازرا باوند واديث ستويل لالهام عدد كبير من المقلدين العرب.

وبالتالي لم تكن المسألة سوى مسألة وقت قبل ان يتمكن الشعراء العرب من الدخول الى ميدان آخر ليكتشفوا الشكل الياباني للقصيدة المسماة «هيكا» الذي يتكون من خمسة وسبعة مقاطع في ثلاثة أسطر تشكل قصيدة قصيرة تمثل لحظة التنوير التي تسمى «ساتوري».

وقد تكون مجموعة جمال جمعة الجميلة التي ظهرت تحت عنوان «كتاب الكتاب» نتيجة لتعرفه على شكل الشعر الياباني. ولكن بدلا من تقليد الشكل المستعار استخدمه جمعة لأغراضه الخاصة وعلى أساس جمالياته الخاصة. والحصيلة هي شكل جديد يبدو شبيها بشيء بين الهايكو اليابانية ورباعيات الخيام الشهيرة. وقد يكون جمعة مبتكر شكل جديد يمكن ان يسمى «ثلاثيات» على الرغم من ان بعضا من قصائده تأتي في سطرين قصيرين وأخرى في اربعة أو خمسة أسطر قصيرة.

وعلى خلاف الهيكا التي تستخدم فيها الصور المكثفة للطبيعة لتصوير المزاج فان ثلاثيات جمعة تستخدم المجازات التجريدية للتوغل في قضايا أعمق للوجود:

واليكم مثالا:

«الكتاب

الذي يتهم الآخرين بالخيانة

هو ذاته خائن»

وهذا مثال آخر:

«الانسانية كتاب

نحن فصول مختلفة

تكمل بعضها بعضا»

ونحن بعيدون عن القصائد الطويلة التي شكلت الشعر العربي خلال ما يزيد على 12 قرنا. فالثلاثيات هي شعر عصر تتحرك فيه ساعة الوجود بصورة متزايدة السرعة. هذا عصر الأنباء العاجلة والقهوة السريعة واليأس. والسؤال هو كيف يتجه المرء الى البطء باعتباره مزية وكيف يكون المرء غير مندفع في تيار احداث سريعة الى حد لا يسمح له بلحظة تأمل.

وبالنسبة لجمعة فان الكتاب يعتبر مجازا موحيا وصورة رفيعة تعكس كل صور الوجود المرئية وغير المرئية. ونحن هنا في مملكة ما وصفه الملا صدر الدين الشيرازي باعتباره «مملكة المتخيل» في مقابل الخيالي. فالشاعر لا يبتدع الأشياء. انه يسرق من المتخيل المعنى الأعمق للصور بما يشبه كثيرا سرقة برميثيوس النار.

وتعتبر الظلمة بالنسبة لجمعة كتابا بشمعة هي قارئة المتعطش للمعرفة. وبكلمات أخرى (هل نحن بحاجة الى كلمات أخرى؟) فان النور وحده يمكن أن يفسر الظلمة كما أن الحرية وحدها يمكن ان تهزم الطغيان.

هل الكمال ممكن ؟ يقول جمعة: أجل، ولكن في الموت فقط. ان النيزك هو الكتاب المثالي المكتوب بجملة واحدة.

ووفقا للشاعر فان حقيقة مانوية تسود في العالم: كل ما هو خير ونبيل وجدير بالحفاظ عليه يرمز له الكتاب بينما كل ما هو مظلم واستبدادي ومهلك ينتمي الى أولئك الذين لا يمكنهم القراءة. فالطاغية، على سبيل المثال، هو أمي لا يمكنه قراءة كتاب الناس كما أن الظلمة لا يمكن أن تقرأ كتاب النور.

وعلى الرغم من صوره وموضوعاته الحديثة فان شعر جمعة يحتفظ بجذوره عميقا في التقليد الكلاسيكي للشعر العربي. وتبدو بعض العبارات كما لو أنها منبثقة بأسرها من قصيدة لامرئ القيس بينما يبقى صوت جمعة حتى عندما يتحدث بلكنة غربية عربيا بصورة مميزة.

وعلى الرغم من بعض الهنات البسيطة أنجزت نينا لاريسا باسيه ترجمة ممتازة للقصائد التي قد تبدو، بسبب قصرها، سهلة في نقلها الى لغة أخرى. ولكن الحقيقة هي ان ترجمة قصائد أطول غالبا ما تكون أيسر على الأقل لأن لدى المترجم بعض المجال في المناورة. غير انه في قصيدة من 17 مقطعا تمشي المترجمة على حبل مشدود، واللعبة هي كيفية تجنب السقوط. وعلى العموم فان المترجمة باسيه كانت لاعبة جيدة.