مئوية سيزان تبدأ بمعرضين ضخمين في باريس وواشنطن

المتمرد الذي رعى التاريخ بيدين حالمتين

TT

ما من شك، في أن ما نسميه اليوم الحركة الحديثة في الفن، كانت قد بدأت في عقل سيزان. فهو كان يريد أن يرى العالم بموضوعية من دون أي تدخل للعواطف المرتبكة، و«كان اسلافه الانطباعيون، قد نظروا الى العالم نظرة ذاتية بحيث تركت كل مناسبة انطباعا مميزا مختلفا على مداركهم، لهذا كان لكل مناسبة عندهم عمل فني منفصل، الا أن سيزان كان يرغب في النفاذ الى الحقيقة التي لا تتبدل».

هذا ما كتبه مؤرخ الفن هربرت ريد عن بول سيزان (1839ـ 1906) الذي بدأت الاحتفالات بمئويته بمعرض ضخم يقام الان في «ناشنال غاليري» في واشنطن تحت عنوان «سيزان في البروفانس» لينتقل بعد ذلك الى فرنسا. فيما يشهد «متحف اورسيه» الباريسي منذ 25 الشهر الماضي معرضاً آخر له، يعيد الاعتبار لعلاقته الوطيدة بصديقه الرسام العبقري كامي بيسارو، يسافر بعدها إلى أميركا.

الاحتفاء بسيزان لم يتوقف، منذ المعرض الاستعادي الكبير الذي شهدته باريس بعد سنة من وفاته تبجيلا لعبقرية يديه الحالمتين. كان القرن العشرون ملعب سيزان، فالتكعيبية انبثقت عن واحدة من لفتاته الكثيرة، والجزء الأعظم من فن عصرنا ظل رهين السلوك التقني السيزاني. يقول رولان بارت: «كل نيكولاس دو ستايل في سنتمترين من سيزان». المبالغة البارتية هنا تليق بشخص سيزان، غير أنها لا تخطئ منجزه، بل إنها تعيد اليه مكانته في رأس الهرم الحداثوي. فمن غير سيزان لم تكن الحداثة ممكنة. صحيح أن الشاعر بودلير ابتكر مصطلح الحداثة، قبل أن يظهر سيزان، غير أن سيزان هو بحق من جعل لذلك المصطلح معنى متاحا.

ما من أحد من رسامي الحداثة الكبار لم يتأثر بسيزان. لم يكن الرجل الذي قضى على سلطة الانطباعية في أعظم لحظات تألقها واقعيا، كانت المرئيات بالنسبة اليه مناسبة لقول الحقيقة والقبض على الجوهر. كان هناك ما يشده الى الرسم بصفته مختبرا بصريا لما يمكن أن تلتقطه أفكارنا من العالم المعاش. لم يكن سيزان رجل لحظته البصرية، بل سعى إلى أن يكون بوصلة عصر في طريقه الى التشكل. ففي لوحاته شيء من بيكاسو، شيء من ماتيس، ومن مودلياني، شيء من جورج براك، ودوستايل وتابيس، شيء من كل فنان ولد بعد أن استولت المتاحف على فن ذلك الحالم الذي قال ذات مرة: لو لم أكن متأكدا من دخول اللوفر لتوقفت عن الرسم. سيزان موجود بقوة في كل محاولة لخلق مفهوم جديد للرسم، لذلك استحق أن يطلق عليه لقب «أب» لحداثة فنية فارقت كل وصف مسبق.

تحت كثافة سطوح سيزان تختبئ الكثير من المفاجآت، وهذا ما عرفه الرسامون جيدا، حين صاروا ينقبون في تلك السطوح بحثا عن مصادر جديدة للالهام. سواء كان موضوعه الحياة الجامدة أم الطبيعة أم الوجوه البشرية، أم فعل حياة مهمل كالاستحمام، فسيزان عمد الى الارتقاء بمعالجة موضوعه بصريا، كما لو أنه يسعى الى صياغة أثر خالد. لم يترك شيئا للصدفة. لا أحد بإمكانه أن يشير الى مكان ما في لوحات سيزان هو ثمرة لحظة نسيان أو غفلة. لا ثغرة في فن سيزان يمكنها أن تستعرض تمرده الكامن للعامة. لقد صنع فنا مفارقا للاتجاهات الفنية السائدة في مرحلته غير أنه قبض على التاريخ بيد صارمة. وهنا تكمن واحدة من أهم صفات شخصيته الصعبة. انه ينتمي الى التاريخ بقوة تمرده التي تفرض عليه التنحي جانبا عن النتائج الفنية التي انتهى اليها ذلك التاريخ، لقد استهلك في فترة قصيرة، كل تلك النتائج ووجد الفضاء أمامه مفتوحا لمأثرته الشخصية.

«البروفانس» هي بلاده الخيالية، قضى هناك طفولته وشبابه يوم التقى بإميل زولا، شكلت طبيعتها مهبط إلهامه الجمالي، في مختلف مراحل حياته. كان يهرب من باريس ليجد في مدينته (اكس) ما يحثه على أن يصنع من مشاهدها صورة عن فردوس محتمل، وأخيرا فانه وجد فيها ملاذا لشيخوخة كانت عامرة بلذائذ جمال ما تزال فتنته تغرر بنا.