خطوات منسية على جسر في بورما

شان شاو يعود بعد عقدين ليكتشف سر البلاد الأولى

TT

بعد عشرين عاماً عاد البورمي شان شاو إلى بلاده، حاملاً آلة تصويره لتساعده على اكتشاف بلد لم يتعرف عليه إلا من خلال الحكايات العائلية،

التي يمتزج فيها الوله الخرافي بالحنين الواقعي، تلك الحكايات التي لم يجد لها حيزا متاحا إلا في عيون الناس

كنت أفكر بالجملة الحزينة التي بعثر المصور البورمي شان شاو حروفها على غلاف كتابه التأملي، المكتظ بالأسئلة الصامتة والطالع مثل صيحة ديك من فجر بلاد صارت بعيدة، وأنا أجتاز جسر بلدتي الوحيد، الذي لا أعرف له اسما. عاد شاو الى بورما بعد 18 سنة من هرب عائلته الى الولايات المتحدة، كان يومها طفلا في الثانية عشرة من عمره. الفتى أصبح مصورا مشهورا، ورغب في أن يستعيد شيئا من الحقيقة، لكن بطريقته: أن يرى مباشرة، يلتقط ما تقع عليه عيناه، الوجوه التي تعينه على الدخول الى قلب البلد الذهبي، كما يصف بلاده وتجعله قادرا على كشف السر الذي يجعل من ناسها الاكثر لطفا من بين البشر، كما أخبره والداه. في تلك اللحظة شعرت بأن شاو هو الآخر اختار أن يقف على جسر وهمي، هو مثلي إذن. اقف في منتصف الجسر، لأكون مثله، لا أفعل مثله حين انظر الى الأسفل حيث سكة الحديد، التي بني من أجلها الجسر. لطالما حلمت أن أكون الرجل الذي صرته فيما بعد، لأقف مثل هذه الوقفة وأتابع بنظراتي المطمئنة سكة حديد وهي تتلوى بين الغابات، لتشق طريقها في الضباب. حين حمل البورمي (شان شاو) آلة التصوير وذهب الى بلده الذهبي، الذي كان قد حمل اسما جديدا هو (ماينمار)، كان مثقلا بحوالي عقدين من الزمن، هما عمر غيابه، ذاهبا الى بلد لم يتعرف عليه إلا من خلال الحكايات العائلية، التي يمتزج فيها الوله الخرافي بالحنين الواقعي، تلك الحكايات التي لم يجد لها حيزا متاحا، إلا في عيون الناس، فلم يصور إلا وجوها. لقد التقى بشراً، هم أهله، بقايا السلالة التي ينتمي اليها، مصدر هلعه العائلي، ولقي تراثه الماثل للزوال. لم يكن سائحا حين قرر أن يترك توقيعه في ذيل مشيته العابرة، ويراقب جملته الحزينة، وهي تمحو عن عمره آثار الغياب. الخطأ الذي سار بوحي من ندائه كان يترك شيئا من أثره السخي في كل خطوة يلقيها على أرض بلده، الذي هو في حقيقته صنيعة خطأ. شاو وقف على الجسر مثلي تماما، في النقطة عينها، غير أنني حين اكمل المشي لن يكون بإمكاني أن استخرج لقى شبيهة بتلك، التي استخرجها وهو يعترف أنه عاد بسؤال حزين، ذلك لأنني لن أجد في نهاية الجسر الأخرى بلادي، ولا شبحا يذكر بها.

غالبا ما نفكر بالصور الشخصية، الصور التي تصنع منا أبطالا في مشاهد، هي في حقيقتها لم تقع، لا لأنها من صنع بداهة استعراضية، بل لأنها تخلو من المزاج العاطفي الذي ندعيه. صورنا التي نشتهيها لا تشي بما يصدر عنا في لحظة الحضور تلك، حيث نكون غائبين عنا. فلكي نكون موجودين في الصورة أكثر علينا أن نكون متماسكين أكثر، وهنا يكمن مصدر الفكاهة في ما نفعل. نحن نمثل الدور الذي يجب أن لا نمثله: حياتنا بصفتها يقينا. لو صورنا شاو لما تعرفنا على أنفسنا، ذلك لأنه سيرانا ونحن نستأنف في كل لحظة نظر الخطأ عينه، الذي انتهينا إليه. ثمة خطأ في مكان ما، خطأ نحن على استعداد لتكراره مئات المرات، من غير أن نشعر. ذهب شاو الى بلاده الاولى للبحث عن السر الذي يهب تلك البلاد صفة البلاد الأولى، بالرغم من أنه عاش الجزء المفصلي الأهم من حياته في بلاد أخرى، حرمت من أن تكون بلاده، إلا على مستوى الأوراق الثبوتية. كان يسعى عن طريق التعرف على ذلك السر الى اجتياز الجسر الذي يفصل بين حياتين: حياة معيشة وأخرى متخيلة. وهو إذ يفعل ذلك لا أظنه راغبا في طمأنينة روحية يجلبها تماه مزعوم بين حياتين، كل واحدة منهما تنفي الأخرى، بل إن صوره تكشف عن رغبته في الباس هيكل تلك الحياة المتخيلة لحما بشريا، لتكف عن غموضها المربك. عن طريق الصورة وهبت شاو فرصة أن تكون موجودة، بصفتها حيز خيال ممكن.

* كاتب عراقي