كيف حول الأميركيون عقيدتهم الدينية إلى نبوغ خلاّق؟

«أخلاقيات التكنولوجيا» .. جذورها بروتستانتية وثمارها اقتصادية

TT

* «ثقافة الإتقان».. مسألة حياة أو موت

* ليست الكوارث قدراً، ولا التخلف صدفة. تجتاح العالم العربي المحن، من البحر الى البحر، حتى بات السؤال عن عدد الضحايا عبثياً، في ما تتمتع شعوب أخرى بأمان العيش وكسب الرزق والرفاه. ورغم ان السؤال حول التطور والتخلف يتكرر كلازمة، إلا ان الكلام عن ضرورة «الإتقان» و«الإجادة»، عوضاً عن «الإهمال» و«اللامبالاة»، ليس مما يهتم به الكثيرون، علماً بان النموذج الأميركي يرينا بوضوح أن الإمبراطورية الأميركية نهضت اساساً على مبدأ واضح هو «الإتقان». وهي ليست مجرد كلمة تضاف الى قاموس وإنما نهج عمل وأسلوب تفكير وقانون حياة. ما سر الانطلاق الصاروخي الأميركي والانهيار العربي المزمن، قراءة في التجربة الأميركية وعشقها لـ«ثقافة الإتقان»، وقراءة أخرى لمثقفين مصريين في محاولة تشخيص داء «ثقافة الإهمال».

* ما هي طبيعة الشخصية الاميركية؟ إنها، حسب واحد من اشهر الباحثين الاميركيين المعاصرين الذين تخصصوا في الثقافة الاميركية، استكبار مع تواضع،

وطمع مع زهد، وصمت مع فصاحة، والتدين والعمل، والتواضع من اهم ميزات هذه الاغلبية الاميركية التي اسست الولايات المتحدة، وحولتها

الى اكبر دولة عسكرية وسياسية واقتصادية في التاريخ.

* واحد من اشهر الباحثين الاميركيين المعاصرين الذين تخصصوا في الثقافة الاميركية هو د. جوزيف ابستاين، استاذ اللغة الانجليزية في جامعة نورث ويسترن لأكثر من ثلاثين سنة، ورئيس تحرير دورية «اميركان سكولار» لاكثر من عشرين سنة، ومؤلف كتب كثيرة، منها «الاستكبار على الطريقة الاميركية».

كتب في كتابه هذا عن تناقض الشخصية الاميركية، وقال انها «استكبار مع تواضع، وطمع مع زهد، وصمت مع فصاحة، واخلاص في العمل مع اخلاص في المرح». وقال ابستاين ان «واسب» هو اساس هذه الشخصية الاميركية (كلمة انجليزية ترمز الى وصف «بروتستانت انغلو ساكسونيين بيض»)، وان التدين والعمل، والتواضع من اهم ميزات هذه الاغلبية الاميركية التي اسست الولايات المتحدة، وحولتها الى اكبر دولة عسكرية وسياسية واقتصادية في التاريخ.

من هنا جاءت عبارة «اخلاقيات العمل البروتستانية» او «اخلاقيات العمل المتدين النقي». وشرح ابستاين هذه بأنها «مواعظ من الكتاب المقدس تحث على العمل، وعلى اتقانه، وعلى فضائله. انها تركز على حب العمل من اجل العمل، وكأن العمل فتاة يتنافس المحبون علي حبها، ويفوز بها اكثرهم جدا». الا تدعو كل الاديان الى العمل والاخلاص فيه؟ ربما الاختلاف يكمن في تطور تفسير المسيحيين لدينهم:

اولا، اثرت على المسيحيين عقدة الذنب ومحاولة التخلص من «الخطيئة الكبرى»، وتفسير الوعاظ البروتستانت (وليس الكاثوليك او الارثوذكس بالضرورة) بأن العمل الجاد «يكفر» عن الخطيئة، و«ينقي» صاحبه.

ثانيا، نجح ماكس ويبر، فيلسوف الماني في بداية القرن العشرين ومؤلف كتاب «الاخلاق وروح الرأسمالية»، في تحويل هذا الموضوع الديني الى موضوع اقتصادي، واعتبره ركنا هاما من اركان الرأسمالية.

وكتب في كتابه: «اصبحت اخلاقيات النقاء واحدة من العناصر الاساسية للرأسمالية الحديثة، ولكل الثقافة الحديثة. اصبح حب العمل نداء دينيا، وكاننا مجبرون على اطاعته. ومع اختراع الماكينة، اصبح حب العمل جزءا من ميكانيكية الحياة الحديثة. اصبحت هذه قوة هائلة لا تؤثر فقط على صناع القرار، ولكن على كل عضو في هذه الحياة الميكانيكية».

لم يعش ويبر حتى يرى الانتقال من «اخلاقيات النقاء» الى «اخلاقيات التكنولوجيا»، ولم يزر المعهد الوطني للمقاييس والتكنولوجيا، هنا في واشنطن، الذي يرفع شعار «اينما كنت، لا يوجد شيء تراه حولك لم ندرسه، او نحسبه، او نطوره».

اسس الكونغرس الاميركي هذا المعهد في سنة 1901 (قبل ثلاث سنوات من نشر كتاب ويبر «الاخلاق وروح الرأسمالية»). واوضحت ديباجة قانون تأسيسه انه «مع تطور الثورة الصناعية اصبحنا نحتاج الى جهاز يطور امكانياتنا لنقدر على المنافسة في السوق العالمية».

وسأل اول مدير للمعهد: «كيف نتأكد بأن الساعة الواحدة ظهرا هي الساعة الواحدة ظهرا؟ وان جالون اللبن فيه جالون لبن؟ وان المتر الكهربائي يساوي مترا كهربائيا؟».

لهذا يعتبر المعهد ليس فقط مركزا يقيس ويحسب كل شيء، ولكن، ايضا، اساسا للثقافة التكنولوجية الاميركية: التأكد من انضباط الساعة (حتى يعتمد عليها الناس)، ومن كمية اللبن في الجالون (حتى لا يشك فيه الناس)، ومن قياس الكهرباء (حتى لا يظلم الناس).

وكتب كارلو شيبولا، استاذ اقتصاد في جامعة كاليفورنيا توفي قبل ست سنوات، في كتابه «ساعات وثقافات» الآتي: «ليست الساعة اساس ثقافة التكنولوجيا لأن الناس يعتمدون عليها، ولكن لأنها هي نفسها برهنت على دقتها»، وسأل: «كيف كنا سنعتمد على الساعة اذا كانت ستين دقيقة يوما، واربعين دقيقة يوما آخر؟».

وكتب شيبولا أيضا: «لا يكفي الاعتماد على الساعة، ولكن لا بد من الالتزام بها. يعرف الذي يعتمد على الساعة الوقت منها عندما يريد (وكأنها هي عبد مطيع له). لكن الذي يلتزم بها يجب ان يخضع لها (وكأنه هو عبد مطيع لها)».

وحكى شيبولا قصة دخول الساعة الى الصين اول مرة (كانت الساعات الاولى عملاقة، ولم تخترع ساعات اليد الا مؤخرا). وقال ان الصينيين، في البداية، انبهروا بصوت الساعة وبدقاتها، واعتقدوا انها آله موسيقية، ورقصوا على نغماتها. ومرت فترة حتى فهموا بأن الهدف منها هو ضبط الوقت. ثم بدأوا يعتمدون عليها. ثم بدأوا يلتزمون بها، او يحاولون ذلك.

وقال شيبولا ان اصعب مرحلة في علاقة الشخص مع الساعة ليست مرحلة الاعتماد عليها، ولكن مرحلة الالتزام بها. وقال ان الالتزام يجب ان يكون في اخلاص، مثله مثل العمل المخلص (خاصة بسبب دور الساعة في العصر الحديث). لهذا فان التزام الاميركيين بالساعة جزء من التزامهم بالدقة في العمل، مثل: اختيار الهدف، وتعريفه، ومناقشته، والاتفاق عليه، ووضع خطة تنفيذه، وتنفيذه، وتقييم التنفيذ.

كتبت، قبل سنتين، جريدة «كليفلاند بلين ديلر» تقريرا رياضيا عنوانه «شابيرو يضع خريطة لرفع مستوى الفريق». هذه اشارة الى مارك شابيرو، مدرب فريق «انديانز» (الهنود الحمر) في المدينة. وقال التقرير ان المدرب «يرغب في تأسيس نظام دقيق، ومحدد، وفعال، لتطبيقه على اللاعبين، لقياس طاقاتهم الحالية، ثم للعمل على تطويرها». واضاف التقرير ان «هدف المدرب هو تقليل الاخطاء لتوفير الوقت والمال: اولا، تحديد اخطاء كل لاعب. ثانيا، مساعدته جسمانيا وعقليا. ثالثا، قياس التقدم الذي حققه. رابعا، مقارنة الانجاز بما قبله».

يبدو هذا الكلام نظريا، لكنه، في الحقيقة، الخطوة الاولى في اي عمل جاد.

تبدو كلمة «خريطة» التي وردت في عنوان التقرير السابق بدون معنى، ولا صلة لها بموضوع رياضي، لكنها، في الحقيقة، تعبير اميركي يعني خطة مفصلة، ومرسومة، ويمكن قياسها. اي ان الاميركيين يفرقون بين «نظرية» و«خريطة»، لأن الثانية دقيقة مثل دقة الخريطة الجغرافية. وهناك تعبير اميركى آخر: «خريطة الطريق لحل مشكلة الشرق الاوسط»، بصرف النظر عن محاسنها ومساوئها، وامكانية تحقيقها، الهدف من استعمال كلمة «خريطة» هو وضع خطة دقيقة للعمل. وهناك تعبير اميركي آخر: «عملية السلام»، وبصرف النظر عن محاسنها ومساوئها وامكانية تحقيقها، الهدف من استعمال «عملية» هو وضع اساس قوي للمفاوضات. اي لا تكفي الدعوة لتحقيق السلام بدون وضع خطة للعمل لتحقيقه.

صحيح ان «عملية السلام» استغرقت سنوات في مفاوضات معقدة، وبدون ان يتحقق السلام. لكن، على الاقل، هناك «عملية» لتحقيق عمل، وهي افضل من «نظرية» للعمل. وفي هذا قال شابيرو، مدرب فريق «انديانز»: «خريطتي تحرك اللاعبين من ثقافة الكلام الى ثقافة الدقة».

قال ستيف روبنز، في كلية هارفارد لادارة الاعمال: «تحتاج ثقافة المكتب الحديث ليس الى العمل فقط، ولكن الى العمل الجاد والمخلص». وقالت بيتي لي، مديرة شركة ووليك في هوستن (ولاية تكساس): «لا يكفي ان يعمل الشخص، ولكن لا بد من الابداع في العمل». وقالت نشرة في مكتب تدريب الاجانب في سالم (ولاية نورث كارولينا): «لا بد من ان يحضر كل اجنبي محاضرة مساء كل جمعة، لمدة شهرين كاملين، لدراسة قوانين الثقافة الاميركية. هذه القوانين هي: المحافظة على سلامة الشخص، والالتزام بالقوانين، والعمل الجاد، وانفاق عائد العمل في حكمة».

لأن هذا مكتب حكومي، لم تشر النشرة الى اي دين او اخلاقيات بروتستانية او كاثوليكية او غيرها. لكن النشرة اكتفت بالاشارة الى «العمل الجاد». اي ان العمل الجاد اصبح «عقيدة» في حد ذاته. ويقدر كل شخص على ربطه، او عدم ربطه، بعقيدته الدينية.

يسهل تعميم ثقافة العمل في الغرب، وتطبيقها على الاوروبيين والاميركيين معا. لكن ابستاين، مؤلف كتاب «الاستكبار على الطريقة الاميركية» قال ان هناك فرقا بين الجانبين، ويشرح «يسألونك في اوروبا: من انت؟ ويسألونك في اميركا: ماذا تعمل؟». وقال ابستاين ان الاروبيين يميلون نحو تحديد مكانة الشخص حسب العائلة، لكن الاميركيين يرون ان العمل هو المقياس، لأن الذي يعمل اكثر يرفع مكانته الاقتصادية والاجتماعية. وقال: «يسمي الاوروبيون العلو في المكانة الاجتماعية «ارستقراطية»، ونسميه نحن هنا في اميركا «استكبارا». ارستقراطيتهم تعتمد على عائلاتهم، واستكبارنا يعتمد على عملنا. كل من يعمل اكثر، يرفع مستواه، ويزيد استكباره».

واشار ابستاين الى المكانة الاجتماعية والدخول العالية للاطباء والمحامين في اميركا. وقال ان كثيرا من الناس يحسدونهم على ذلك، لكن هؤلاء الناس ينسون ان الطبيب يدرس اربع سنوات، ثم يدخل كلية الطب، وان المحامي يدرس اربع سنوات ثم يدخل كلية القانون. اي انهم يعملون اكثر من غيرهم، ولهذا حققوا ما حققوا.

لكن ابستاين متشائم من المستقبل. قال ان الاميركيين اصبحوا اكثر استهلاكا واقل انتاجا، واكثر استيرادا واقل تصديرا. صحيح انهم يعملون اكثر من اي شعب آخر (خاصة بالمقارنة مع الالمان والفرنسيين، بسبب قوة نقابات العمال واتحادات الموظفين في البلدين)، لكنهم، كما قال، يستهلكون اكثر، جريا وراء مكاسب مادية، في وقت قلت فيه العلاقات العائلية والاجتماعية والانسانية.

اضف الى هذا تحذير ويبر، الفيلسوف الالماني قبل مائة سنة، من «يوم يصبح فيه الاخصائي بدون روح، والخبير بدون قلب».