«خريطة الطريق» للقضاء على «آيديولوجيا الإهمال»

العلاقة السرّية بين النظافة العامة والهزيمة العسكرية

TT

شهد المجتمع المصري في الآونة الأخيرة عددا من الكوارث المروعة، بدءاً من محرقة قصر ثقافة بني سويف التي تفحم فيها خمسون من خيرة شباب المسرحيين، مرورا بحادث العبارة الذي لقي فيه نحو ألف شخص حتفهم غرقا في البحر، وحتى مرض «انفلونزا الطيور» الذي أصاب الحياة المصرية في مقتل. في كل هذه الكوارث وغيرها تبرز «ثقافة الإهمال»، وتتحول إلى أداة جاهزة دوما للتبرير، بينما تتوارى تحت الركام «ثقافة الإتقان» والإجادة. في هذا التحقيق محاولة لإلقاء الضوء على هذه القضية عبر شهادات أدلت بها لـ «الشرق الأوسط» مجموعة من المثقفين والكتاب المصريين.

ميلاد حنا: النفاق الرشيق

يقول الدكتور ميلاد حنا، أستاذ الهندسة والناشط السياسي المعروف: ما يقابل ثقافة الإجادة هو ثقافة الإهمال، ولا يوجد عامل واحد، بل عدة عوامل وراء ذلك. ثقافة الإهمال جزء من الثقافة المصرية وهناك أمثلة كثيرة في التراث اليومي تدل على ذلك مثل «مشي حالك»، «متحبكهاش»، «متدقش»، «متبقاش حنبلي»، وكلها مفاهيم ضد الإجادة والتخصص. كرس كل ذلك عدم وجود عائد مادي أو معنوي لثقافة الإتقان، فمن يحصل على مكاسب اكثر هو المنافق. «ثقافة النفاق» هي التي أوصلت كثيرين لاماكن متقدمة، من هنا ظهرت مفاهيم جديدة للمثقفين «عشان ما نعلي ونعلي لازم نطاطي نطاطي». فالأغاني لا تخرج من فراغ وأغلب الموجودين على الساحة المصرية من وزراء ومحافظين وأساتذة جامعة وخلافه، هم جمهور من المثقفين المنافقين. وهم نوع رشيق من المنافقين وليس النوع الفج الممجوج الذي يثير الخوف لفجاجته.

يضيف ميلاد حنا: منذ عصر محمد علي إلى اليوم والبلاط الملكي والسلطوي به مجموعة من المنافقين المحترفين. وهذا موضوع لا بد من دراسته. فالحاكم يريد من المنافق أن يكون محترما وهؤلاء هم الآخذون في الارتقاء. ويرى ميلاد حنا أن الحل يكون من فوق ومن تحت. حول القيادة توجد مجموعة من المنافقين، وزير، مدير جامعة...الخ، أي منظومة متكاملة من النفاق. هذا يسود في المجتمع الزراعي والصحراوي الذي ينظم الشعر في الملك وضد الملك في الوقت نفسه. اما في المجتمع الصناعي فكل شخص مشغول ويعمل مثل الآلة. لذلك فإن الحل الفعلي لأي مجتمع يريد التقدم أن تكون العلاقات المجتمعية يربطها الأداء الدقيق المحكوم بالأرقام والمعرفة والتكنولوجيا. وهذا الموضوع كبير يستحق دكتوراه.

السيد ياسين: عشوائية المال والسلطة

عند السيد ياسين، الكاتب والمفكر السياسي المعروف: القضية كلها متعلقة بالتنشئة الاجتماعية. الالتزام بالوقت ووضع معايير للجودة. فالجودة مختلة ولا بد من المحاسبة والمكاشفة، وفك الارتباط بين المال والسلطة. صاحب العبارة التي غرقت، عضو في مجلس الشورى، ماذا فعل ليستحق هذا المنصب، نريد أن نعرف؟! قبل 1952 كانت هناك معايير واضحة، وكنا نجد أعظم الكفاءات مهندسا محترما، أستاذ قانون محترما وغيرهما، هي التي تصل.

يوضح السيد ياسين انه في المجتمعات الغربية تسود ثقافة الإجادة لأنها مجتمعات صناعية، وأخلاقياتها مختلفة. فالوقت له قيمة والعلم والعمل، في إطار من المحاسبة والمكاشفة. هذه المجتمعات دخلت الآن إلى المعلوماتية محمولة بأخلاقيات المجتمع الصناعي، ليأتي العمل في إطار من الثواب والعقاب بلا واسطة أو محسوبية. فعندما يفشل وزير يستقيل فورا. نحن تنقصنا الرؤية الاستراتيجية للمجتمع. لا بد من وضع مجموعة سياسات للعشرين سنة القادمة. هذا ليس دور النخبة الحاكمة فقط، بل المجتمع المدني، ومراكز الأبحاث والمثقفين من اجل تعبئة الناس، ومن غير ذلك سننهار. لا بد من تخطي نسبة 40 % أمية لتطوير المجتمع، ومحاربة الفساد بكافة صوره.

عبد الغفار مكاوي: أزمة ضمير وقيم

الدكتور عبد الغفار مكاوي، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، يقول: أنا اتهم هذه الثقافة بأنها أهملت القيم التي يتم غرسها في نفوس الصغار من سن الحضانة إلى الجامعة لتربية الضمير وتحمل مسؤولية العمل باعتبار أن أي فعل لا بد ان يكون محملا بالقيم لصالح الذات والمجتمع. إهمال تربية البشر ينتج عنه انتشار اللامبالاة والهروب من العمل وتبعاته. ولا بد من توجيه قيمي لصالح حياة حرة متطلعة للمستقبل وهذا هو قلب الدين، لافتا إلى أننا نأخذ التدين كنوع من الانشغال بالمظاهر مع أن التدين هو علاقة الفرد بالله والعالم والناس وكل ما يرضي الله. فالإنسان المتدين يتحمل مسؤولية الآخرين ويقوم بدوره في المجتمع لجعله مجتمعا رشيدا منضبطا، لتحقيق قيم تربط الإنسان بالسماء وترتفع بالأرض إلى الرباني ليشرق عليها نور الألوهية. ويخلص الدكتور مكاوي إلى أن الدين مجموعة قيم جديرة أن تعاش وعلى كل المربين والمشتغلين بفلسفة الأخلاق الاهتمام بالقيم ووضع ترتيب جديد لها غير قيم الانتهازية والنفعية والإهمال، ولن ننصرف عن هذه القيم إلا إذا ربينا الناس على التضحية والحب والإيثار والإجادة، كل هذا هو جوهر الدين.

يتابع: لكننا بلاد بها مسلمون وليس بها إسلام كما قال الشيخ محمد عبده عندما سافر إلى أوروبا وجد هناك إسلاما ولم يجد مسلمين. فالمجتمع الغربي به انضباط وإحساس بالمسؤولية وهذا اقرب إلى روح الدين. عندما نفهم ونمارس جوهر الدين وهو العلم والعمل والإتقان سنبني الحضارة الإسلامية مرة أخرى، لكننا نعيش بلا قيم، لذلك أصبحنا سخرية العالم ويتم وصفنا بالوحشية والبربرية.

مصطفى عبد الغني: المناخ العام

يرى الكاتب الصحفي د. مصطفى عبد الغني أن ذلك يعود إلى المناخ العام الذي نعيش فيه جميعا. نحن تحاصرنا أميات كثيرة: هجائية، ثقافية، تقنية. ففي غيبة التعليم بشكل نموذجي لم يبق غير الفضائيات أو البرامج الإلكترونية الموجهة للإنسان. معنى ذلك أن الإطار العملي للثقافة لم يعد واردا. إنما نتعامل الآن مع ثقافة عصر المعلومة لكن مع تسطيح كل شيء، وبذلك اختفت الثقافة الجادة واصبحت بديلا لها الثقافة الترفيهية. ويضيف: الحل هو في إعادة النظر بالبرامج التعليمية فلا يمكن ان تكون مدارسنا في مؤخرة المدارس التي تمنح الطالب الوعي بحضارته، يجب إعادة النظر في أسلوب حياتنا العلمية والحياتية لتعود ثقافة الإجادة ويعود الاهتمام باللغة العربية التي هي آخر حصون الدفاع عن هويتنا الثقافية.

حسن فتح الباب: تراجع حضاري

ويرى الشاعر الدكتور حسن فتح الباب ان عوامل عدة، تقف خلف عدم إجادتنا الأشياء. فنحن نعيش في الوقت الحاضر حقبة تراجع حضاري في حين يبلغ الغرب الذروة. فأما من حيث التدهور السياسي فان العرب محكومون في معظمهم بساسة ينطبق عليهم قول ابن الرومي:

عصر نما قدر الوضيع به

وغدا الشريف يخيفه شرفه

كالبحر يرسب فيه لؤلؤه

سفلا وتطفو فوقه جيفه

ويتساءل د. فتح الباب: إذا كانت هذه الحال في عصر الدولة العباسية، ازهى العصور العربية، فكيف بنا الآن وما زلنا نحمل رواسب الزلزال الاستعماري. ولما قضينا على الاستعمار خلفه حكام لا يعنيهم إلا تحقيق مصالحهم الخاصة المتمثلة في الحفاظ على السلطة وشعارهم: «أنا ومن بعدي الطوفان» مما أدى إلى افتقاد الحرية والعدالة، وهم يتشبثون بشعار الولاء قبل الكفاءة. وقد انعكس ذلك على كثير من القطاعات لان الناس على دين ملوكهم. فأصبح الموظف الكفوء منبوذا لأنه لا يقدم فروض الطاعة العمياء ومن ثم يصاب بالإحباط ولا يجيد عمله.

وينوه الدكتور فتح الباب إلى انه إذا كان هذا حال طبقة المتعلمين والمثقفين، فمن الطبيعي أن يصبح من يصل إلى القمة هو الانتهازي. وقد فاقم ذلك تدهور الوضع الاقتصادي في ظل الرأٍسمالية الطفيلية حتى أصبحت الهجرة هي الفرصة الحقيقية لإثبات الذات، في ظل ثقافة الإجادة المهشمة في الداخل. ناهيك عن تفشي ظاهرة الاتكالية والقدرية التي تعود للفهم الخاطئ للإسلام.

يحيي الرخاوي: افتقاد النظام

لدى الدكتور يحيى الرخاوي، أستاذ علم النفس، تتلخص الحكاية ببساطة في أن المجتمع المصري، ليس له شكل محدد المعالم من حيث وجود اناس، لهم نظام يجمعهم، وإدارة تدير هذا النظام بشكل معلن مستمر، لا يتغير إلا من خلال ما حدد من قواعد. هذا ما يمكن أن يسمى «دولة» عليها مسؤولية نحو ناسها الذين يستفيدون من المشاركة في قبول النظام وبالتالي تحمل المسؤولية، ويؤكد: نحن نفتقر إلى ألف باء ما هي دولة تدير مجتمعا متحضرا. «هيبة الدولة» اختفت من وعي الناس. الدولة غير حاضرة في سلوكنا اليومي، ولا في تركيبة المشاعر، ولا حتى في حسابات المكسب والخسارة.

يوجد إهمال في توصيل المعلومة للطفل، تسيب للفرد قبل المجموع، وغش جماعي، وإهمال في تطبيق قواعد المرور، إفراط في إصدار القوانين بدءاً من حزام الأمان في السيارة حتى نظم الاستثمار، وبالتالي يوجد تحايل في التطبيق، إهمال في تحديد نظام وهدف وجدوى البحث العلمي، يصل إلى درجة التزوير.

ويشدد د. الرخاوي على انه لا بد أن تبدأ المسألة من الأشياء الصغيرة جدا، من توقيف السيارات في الشوارع الضيقة على الجانبين حتى نظافة المراحيض العامة.

هذه العلامات الصغيرة هي المقياس الأول الذي يمكن أن نقيس به احتمالات غرق عبارة، أو خسارة حرب، أو وفرة إنتاج أو أصالة إبداع.