ميلان كونديرا علامة في الرواية ونقدها

بحَّاثة لا يتوقف عن النبش في الذات وتحفيز الآخر

TT

تستوقف قارئ الآثار الإبداعية للتشيكي ميلان كونديرا، خاصية أساسية تتمثل في التقاطع بين كتابتين؛ كتابة الرواية وكتابة نقدها. قد يرى إلى هذا التقاطع في ضوء الاعتبار الذي يقر بأن الإبداع يعتمد في تشكله على فعل التخييل. والأخير مكون قوي في الرواية كما في النقد. إلا أن فعل التخييل يلزم استخدامه الاستخدام المنتج لما يمكن أن يمثل الوعي الجديد والمستجد، وهو بالطبع الوعي المضيف لما ساد من قراءات طبعت بالتكرار المميت، لذلك قد تصدم استنتاجات كونديرا أفق انتظار القارئ فيرفضها، مثلما قد تخلخل قناعاته فتستدعي إعمال الفكر والتأويل.

إن الرواية لدى كونديرا بحث فكري فلسفي وفني، لذلك فالموضوع قد يبدو بسيطا في الظاهر، لولا أن تناوله له، يقنع المتلقي بأنه أمام كاتب لن تعوزه مادة الرواية، فلقد اشتغل على: الخفة، البطء، الهوية، الجهل وغيرها.

هذه الانشغالات، تفرض على قارئه ـ كما أتصور ـ إحدى طريقتين في القراءة؛ قراءة ومتابعة حكاية الرواية، أو قراءة ومتابعة حكاية ثقافة الرواية. فالمؤكد أن القراءتين، تتكاملان بحكم أن الرواية واحدة. من ناحية ثانية، فإن حكاية ثقافة الرواية تفترض مرجعية واسعة موسعة، على أن توظف لخدمة حكاية الرواية، من ثم يجد التلقي أفق انتظاره واسعا، حيث أن فيض المعلومات يستدعي استحضارها، ما دامت تمثل سياقا ثقافيا فكريا هو وليد مرحلة سياسية مظلمة طبعت بالاستبداد من جانب، وبالاحتلال من جانب آخر.

إن قارئ حكاية الرواية، يستشعر السمة الذاتية التي تهيمن على المادة. ذلك أن كونديرا يغرف من معين المسار الذاتي، دون جرأة القول إن ما يكتبه بالأساس سيرة ذاتية. إنها رواية تنفتح على التخييل الذاتي لتعيد إنتاجه.

كونديرا وفق هذا التصور، يقدم نموذجا في الكتابة الروائية. إنها الرواية الثقافية الفكرية التي تطالعنا بها أيضا تجارب كل من: أمبرتو إيكو، إيزابيل الليندي، ماريو بارغاس يوسا وغيرهم، حيث تتصارع شخصيات مثقفة، أقول أفكارا وأقوالا و آراء.

إذا كان السابق يجسد صورة كونديرا الروائي، فإن الناقد قد لا يختلف، إذا ما لمحنا لنمط الحكي الذي تصاغ وفقه الكتابة النقدية للرواية. هذه الكتابة تنفتح على قراءة الفني: تشكيلا وموسيقى، والأدبي: مجسدا في الشعر.

ويمكن القول إن كونديرا الناقد، والباحث في الرواية، لا يتجاوز في الجوهر والعمق التطبيق على أهم أعلام الكتابة الروائية: رابليه، سرفانتس، موزيل، جويس وكافكا. ويحق الذهاب بعيدا إلى أن أعمق قراءة تحققت لكافكا أنجزها كونديرا في كتابيه: «فن الرواية» و«الوصايا المغدورة». واللافت إلى أن القراءة النقدية والبحثية، تتأسس على قاعدتي: المقارنة والتأويل، مع استجلاء سياقات الإنجاز الإبداعي، بدون الذهاب في التصور إلى أن ما يبدعه كونديرا هو في الجوهر صورة من النقد الثقافي. على أن كونديرا، أحيانا، يعمل على إقصاء المقارنة، وكأنه يصف ويفسر فقط، في حين نجد أن من يقارن هو المتلقي، وثم يكمن تفاعل المتلقي والمكتوب.

والملاحظ أن إعادة الحفر النقدي في تراث السابقين تتكرر تكرار الإضافة، وكأن أي قراءة جديدة هي بمثابة تصور جديد لم يتوصل إليه في السابق.

إن كونديرا ومما سلف، يؤسس لنمط من الإبداع؛ النمط الذي لا يختلف فيه إبداع الرواية عن كتابة النقد، في الآن الذي يستقل كل منهما بذاته. وهذا التجسيد مطمح الكتابة الإبداعية المأمولة.