زياد الرحباني يخرج عن صمته بشريط وإعلانات سخريتها علقمية

يحدق في العمق ليخرج باستنتاجات من مرتبة الفجيعة

TT

زياد الرحباني ظاهرة لا تشبه غيرها، إن لطبيعة النتاج المتنوع الذي يقدمه أو بسبب الالتباس الذي يشوب علاقته بعشاقه الكثر وهم ينتظرون منه اللحن والقفشة والعبارة، فما بالك بشريط صوتي كامل على انغام الموسيقى أطل به مؤخراً، وبعد طول غياب، عنوانه «نص الألف خمسمية» وإطلالات إذاعية من خلال «لإعلان رقم 1» و «الإعلان رقم 2» وتبعهما الثالث وربما الرابع. حين يغيب زياد الرحباني فلا بد ان لذلك معنى، وحين يعود فثمة معنى آخر، خاصة حين يكون لبنان على شفيرٍ خطر.

بعد فترة طويلة أمضاها غائبا وصامتا، عاد زياد الرحباني أخيرا، من خلال «اعلانات» متتالية عبر إذاعة «صوت الشعب» اللبنانية، وأيضا عبر تسجيلات صوتية وزعت مجانا في شوارع العاصمة اللبنانية. العودة المباغتة تثير التساؤلات نفسها التي طرحها الانكفاء، وتؤكد أن ثمة ما يحاول زياد ايصاله، سواء عبر الصمت أو الكلام.

ربما كان يحتاج زياد الرحباني لهذه الهدنة الطويلة نسبيا لينجز بعض الامور، ويعيد النظر في علاقة مع الجمهور اتسمت بشيء من الالتباس، وليزيل ما يمكن اعتباره سوء تفاهم من الصنف الاصلي. لقد نظر الجمهور الى زياد طويلا بوصفه صاحب موهبة متميزة في السخرية والاضحاك، لكنهم لم يأخذوه أحياناً على محمل الجد. والامر لا يمكن تحميله الى الناس وحدهم، اذ ان لغته الساخرة سواء في اعماله الاذاعية أو في مسرحياته واغانيه واحاديثه الصحافية النادرة كانت محرضة على تصنيفه عبثيا بامتياز، باحثا عن المفارقة لذاتها، ومستمتعا بصياغة اللغة المتهكمة. وكان على زمن طويل أن يمر، وعلى أحداث كثيرة أن تحصل، وعلى مواقف شتى أن تعترض سبيل اللبنانيين، حتى يقف واحدهم في لحظة تأمل قائلا لنفسه قبل أن يصارح الاخرين: «الان أدركت ما الذي كان يعنيه زياد الرحباني بهذا الموقف، أو تلك الاغنية، أو ذاك الحوار الصحافي».

كان لا بد من وقت طويل يتم خلاله تجاوز مفعول الجرعة الفائقة من الطرافة والتهكم التي امدهم بها زياد، ليدرك متابعوه أن هذا القول المفعم بالأبعاد الكاريكاتورية يخفي وراءه الكثير من الرزانة والرصانة، وان الرجل لا يعنيه أن يكون ممثلا كوميديا، أو كاتبا ساخرا، أو حتى مروجا لمدرسة مسرحية جديدة، بقدر ما هو منحاز لغريزة التحديق الثاقب في عمق الاحداث، راصدا تحولاتها وانعطافاتها، رابطا تفاصيلها المتنافرة ليخرج باستنتاجات من مرتبة الفجيعة. كان على هؤلاء المتابعين أن يصدقوا أخيرا أن زياد جاد اكثر مما ظنوه، وربما أكثر مما ارادوه أيضا.

شهداء يستحقون الرثاء

في «الاعلان رقم 1» الذي اشار الى خروج زياد عن صمته استمع الناس الى ما يشبه البيان السياسي: «المواطن زياد عاصي الرحباني» ينوي الرد على المصرحين بـ«أشياء» يجهلون أثرها على العباد غير المصرحين. أما «الاعلان رقم 2» فقد استهله المواطن المصرِّح باستمطار الرحمة على الشهداء الذين «راحت على كل واحد منهم لحاله» (أي بمفرده). العبارة تعيدنا قسرا الى أخرى تشبهها وردت في مسرحيته «فيلم اميركي طويل» يوم جزم زياد (رشيد) أن ثمة عكفة (انعطافة) متوارثة في دماغ المواطن اللبناني تجعله «يفرد» دائما عن سواه، اليوم يستكمل القول الى نهايته المنطقية ما دام الاحياء «يفردون» فلا بد للشهداء أن «تروح على كل منهم بمفرده»، تكثيف منطقي ومعبر وموحي ومستفز للسؤال أيضا: هل يتعلق الامر بشهداء يسقطون في سبيل قضية جامعة أم بضحايا مشتتين يستحقون الرثاء؟ «يا حرام» يقول زياد، والقول واضح برغم الاختصار.

الاعلان يتحدث أيضا عن اوتيل البريستول الذي تحول أخيرا الى مقر لقوى 14 آذار المعترضة على مرحلة سياسية منصرمة، وان كانت لا تزال تحظى ببعض الحضور، هو يدخل من نجوم الفندق الخمسة الى «نجوم الظهر» ويعني بهم بعض المشاركين في الاجتماعات من أهل الاكثرية الحالية. ومع أن التصنيف يثير ترحيب البعض، ورفض الاخرين، الا انه يحيل الجميع الى مسرحية قديمة لزياد عنوانها «نزل السرور» التي وجدت بعد اكثر من ثلاثة عقود معادلها الواقعي.

العلاقة الجدلية بين «وطن» و«فندق»

ضحك الناس طويلا على أحداث المسرحية، قارنوا بين يوميات النزلاء وشؤونهم المواطنية، ولم يكن الاستنتاج صعبا ان النزل يجسد الوطن الذي راح ابناؤه يغادروه بمجرد تدني مستوى الخدمات التي يقدمها، هكذا يفعل رواد الفنادق، وهكذا يسهل استبدالها بالخنادق لزوم الحرب، وأيضا هكذا ردد الناس مع زياد ما حسبوه مسرحية وأغنية. مرة أخرى كان لا بد من وقت طويل حتى يدرك الناس جوهر العلاقة الجدلية التي تربط بين وطن لا يزال برغم نصف قرن من استقلاله قيد التشكل، وبين فندق يتناسب عدد نجومه مع كمية البهجة والسرور التي يتمكن من ضخها في نفوس قاطنيه.

الاعلان يتحدث أيضا عن مشكلة مزمنة يعانيها اليمين اللبناني مع اللغة العربية «ليس معقولا ان يتحدث السفير الروسي بالعربية افضل من احد اركان الثورة اللبنانية». المسألة تستدعي البحث في الاصول الفينيقية التي يتوسلها بعض اللبنانيين بهدف التمايز عن المحيط العربي، والتي تجعل حكاية التعايش المروج لها في زمن السلم نوعا من الاسطورة.

الخلل جوهري يكمن في هوية الانتماء، وعبثا يجري استنباط حل له على السطح، لكن المواطن المصرح يتساءل فجأة: «كيف امكن لذاك الفينيقي الذي اخترع الحرف ان يكون جاهلا باللغة العربية؟ كيف استطاع ان يبرع في التجارة مع جيران يتحدثون لغة غريبة عنه؟ وأيضا كيف انجز التوفيق المستحيل بين مقدراته الاستثمارية الخارقة وانطواء مرضي على الذات؟». لعل الاخطر من ذلك ان امتداده البشري يحاول اكمال رسالته بالاسلوب نفسه في زمن العولمة والانفتاح والقرية الكونية الواحدة. اسئلة لا بد للمعنيين من تقديم اجوبة مقنعة عليها.

كان لا بد للمواطن (زياد الرحباني) الخارج على قانون الصمت ان يشير، في «الإعلان رقم 2» الى ما يشهده لبنان حاليا من انقسام في الرأي بين ساحتين، يتفقان في الانتساب الى شهر آذار (مارس)، ويختلفان في الارقام ثمة 8 و 14 آذار، لعبة الارقام مغرية، ماذا لو جمعنا الرقمين؟ الناتج سيكون 22 وهو يصادف موعد الاستقلال.. هل من يتذكر ذلك في خضم الثورات المتضادة؟ الويل لأمة انستها حماستها بداهة أن تكون مستقلة، وعندما يقول زياد ذلك فان ثمة ما يبرر تصديق القول، هو كان سباقا الى استنطاق الارقام وابراز مأزقها ولنستمع اليه يقول في «فيلم اميركي طويل»: «80% من الشعب اللبناني يريدون لبنان الجديد و80% منهم لا يريدونه، يريدون «الصرفة» أي الخروج من الازمة بأي ثمن». هذه المعادلة المستحيلة سترتسم واقعا «عنيدا» بعد عشرين عاما أو يزيد: أغلبية الشعب مع 8 اذار، واغلبيتهم كذلك مع 14 اذار، لكن مجموعهم مع «الصرفة» أيضا. انها المعجزة اللبنانية التي تتمرد حتى على الارقام الصماء.

حديث الساحات يقود الى الشعارات التي حفلت بها وشعار الحقيقة في مقدمها: هتف اللبنانيون طويلا طلبا للحقيقة في شأن اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وكانوا صادقين في ذلك، لكن هدفهم كان يمعن في النأي كلما راودهم ظن الاقتراب منه، ايضا في المسرحية السابقة نفسها، كان المثقف عبد الامير يصرخ بأعلى صوته طلبا للحقيقة التي «مش عم تفلش». عبد الامير ذهب الى مستشفى المجانين، ونزل اللبنانيون الى الساحات بعد ان أعطوها اسماء جديدة، مع ذلك فان الحقيقة «مش عم تفلش»!!

زياد في إطلالاته الجديدة، يشعرنا اكثر من أي وقت مضى، كم انه كان رؤيويا وعميقاً، وان أسلوبة الساخر، ظلمه بقدر ما أضحكنا.