صورة عتيقة تحتفظ بالذكريات القديمة

ترجمة عربية لرواية جديدة للكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي هي الأضعف في ثلاثيتها

TT

لعل أكثر ما يصيبنا بالملل من حكاية ما، وحاك ما، هو قدرتنا على توقع القادم دائما. ولأن الرواية في أحد أبعادها هي مجرد حكاية، فقاعدة الملل تلك تنطبق عليها أيضا. ومن ثم يعمد الرواة إلى مفاجأتنا من حين إلى آخر بمفاجآت لا نتوقعها، لكنها تكسب الحكاية تشويقا إن كانت منسجمة مع الحبكة الدرامية: وضعفا إن لم تكن.

إيزابيل ألليندي تلعب على هذا الوتر بطريقة مضاعفة: من حين إلى آخر تقدم لك إشارة عما سيحدث في الرواية بعد قليل أو كثير، وهو غالبا شيء يتوقعه القارئ، فكأنما الراوي دخل معه لعبة التحدي: هل توقعت ذلك؟ هو لك إذن، واتبعني. ثم تنقض ألليندي على شخوصها كما القدر. بطلة محورية تموت في غمضة عين، بلا مقدمات ولا إشارات. ودخيل هامشي يصير هو محور القصة، بينما تتوارى شخصيات يشعر القارئ في أول القصة أن لها مقومات الأبطال. فهل يعني هذا أن ألليندي انتصرت في لعبة التوقع على طول الخط؟

النساء الجميلات لدى ألليندي يختفين دائما ببساطة، وتبقى النساء ذوات النزعات العملية أو صاحبات الرسالة. لكنهن ـ الجميلات ـ لا يمتن حتى توفيهن حقهن من اهتمام الناس ومن ثم القارئ بهن، ثم تمحوهن بجرة قلم من عالمها. هكذا ماتت لين في صورة عتيقة وهكذا ماتت روزا في بيت الأرواح.

أما الحب عند ألليندي فشعور هادئ رائق، يسري بلا ضجيج، ويضحي بلا ادعاء، ويقدم من دون أن تعلم يسراه ما تنفق يمينه. وهو شعور لا تشير إليه غالبا باسم الحب، بل بأسماء أخرى قد تكون الثقة أو الارتياح. وعلى ذلك فقصص الحب العنيفة لديها، وهي قصص الحب الأول غالبا، لا تكتمل أبدا. بينما تكتمل قصص «التفاهم» و«الارتياح» التي تأتي لاحقا. إلزا سومرز في ابنة الحظ ترحل خلف حب غيبي، غير واضح الملامح، لكنه يصير قضية وجود، ثم تكتشف أخيرا أنها كانت تجري خلف حب لا طائل من ورائه، وأن الحب الحقيقي كان إلى جوارها دائما متمثلا في الصيني تاو تشين. وابنتها لين في «صورة عتيقة» تموت بعد أن تلد ابن سفاح من حبيب لم يعرها اهتماما أبدا. أما سيفيرو ديل بايي، الذي يتزوجها وهي حبلى من غيره حبا لها، فترحل عنه (موتا) من دون لقاء غرامي واحد. بينما يستمر سيفيرو ديل بايي في تلك الرواية التي تليها «بيت الأرواح» مع المرأة التي وثقت دائما أنهما لبعضهما.

السفاح صورة أخرى تتكرر لدى ألليندي وفي كل الحالات تحمل المرأة الجريرة، وتدفع ثمن ما يعتبره المجتمع خطيئة. وإيقاع «السفاح» في رواياتها يتوازى مع إيقاع الأحداث: فحين تمضي هادئة يكون السفاح نتيجة لقصة حب أو تغرير مغلف بالحب، وحين تتصاعد وتيرة الصراع ـ كما في بيت الأرواح ـ يكون السفاح عنوة، تدفع إليه المرأة دفعا، وتحمله في بطنها وهناً. الحَبَل لدى ألليندي إجمالا هو الثقل المنوط بكتف المرأة/ الأم/والأمة، الثمن الذي تدفعه حين تريد أن تعيش حياتها كما أحبت وأن تستمتع بلحظات من الحب والحرية، والذنب الذي يلصقه بها الآخرون لأنها فعلت ذلك. الحَبَل هو ثقل المجتمع بكل قيوده وقيمه المزدوجة، كأن البيولوجيا تصم المرأة منذ خلقها بخزانة خطاياها. ثم الاغتصاب هو القهر مقترنا بالظلم: حين يتحمل المجني عليه وزر الجريمة وينجو الجاني بفعلته. وكلاهما ـ الحبَل والاغتصاب ـ دليل على أن المرأة هي الأكثر أصالة والتصاقا بأبنائها، أو هي الوطن الحقيقي، والمغتصبون (الرجال ـ الحكام ـ الغزاة) مجرد عوارض في تاريخ الأشخاص. والثلاث شخصيات النسائية الرئيسية في ثلاثيتها مجهولات النسب. فالأم هي الأهم، أما الرجال فلا فارق كبيرا أن يكون الأب زيدا أو عمرا. كما أن تجهيل النسب يمنح شخصيات بطلات رواياتها استقلالا، وتحررا من قيم النسب إلى طبقة أو قيم معينة. وهنا أيضا جميع بطلات ألليندي يعشن حياة تنقسم إلى قسمين: أولهما متماش مع طبيعة التربية والقيم التي تربين عليها، وآخرهما مختلفة تماما عن تلك القيم: ومتسقة مع القيم الذاتية للبطلة انطلاقا من تجربتها الخاصة.

لم تنتصر ألليندي إذن في لعبة التوقع دائما، إذ يستطيع القارئ لثلاثيتها بسهولة استنباط مبادئ عامة كتلك التي أشرنا إليها. لكن ما قيمة كل هذا الحديث حول التوقعات والمبادئ العامة، وكأن الرواية رهان بين القارئ والراوي؟ ألليندي ـ ذات الكتابة المثقلة بالرموز والدلالات و«المبادئ العامة» ـ تحتاج دوما عملا ملحميا يتيح لها فرصة الترميز. والملحمي هنا تعني متعدد العوالم والشخصيات، ومقترنا بحدث ما ضخم وثري تلتف حوله الجموع. ولعل هذا سر تفوق روايتي ابنة الحظ وبيت الأرواح ـ الأولى والثالثة في ثلاثيتها ـ على رواية صورة عتيقة، التي إن أردت أن تصفها فلن تجد أكثر من كلمة «عادية». وحين تقرأ الروايات الثلاث ثم تحاول أن تسترجع أحداثها جميعا، تعجب من قدرتك على تذكر أحداث أولاها وآخرها وشخصياتهما دون الوسطى ـ صورة عتيقة ـ التي تترك في ذهنك صورة باهتة لشخصيات «عادية» يراد من حين إلى آخر إصباغ نوع من الغرائبية عليها، فتأتي تلك الغرائبية غريبة عن السياق.

هل نشأ ضعف «صورة عتيقة» روائيا مقارنة بجارتيها في الثلاثية من حقيقة أن الكاتبة كتبت الجزء الثالث أولا ثم الأول، وأخيرا حشرت الأوسط في المساحة الباقية؟ (رغم كون تلك التراتبية دليلا على حضور الشخصيات في ذهن الكاتبة، وقدرتها على استحضار تلك الشخصيات بتداع متجرد متحرر من العلاقة بالزمن).

قد تكون الإجابة على تساؤلنا السابق هي نعم. لكن العلة ليست ترتيب الكتابة بقدر ما هي المساحة التي تمنح ألليندي الفرصة لإشباع لا وعي القارئ، وخاصة هؤلاء الذين قرأوا بيت الأرواح وابنة الحظ. على اعتبار أن اللاوعي فينا كقراء يخلق لكل كاتب نعرفه صورة ما، ويمنحه مساحة ما، على الأخير مسؤولية ملئها. وهذا ما فشلت فيه إيزابيل ألليندي في صورة عتيقة.

أعيد صياغة بعض ما سبق: ضعف صورة عتيقة لم ينشأ من كونها رواية محشورة بين روايتين، لكنه نشأ من انحساره عن حيز توقعات مخيلاتنا حول رواية ألليندي التي تكمل الثلاثية. بمعنى آخر «صورة عتيقة» تختلف عن الأخريين فقط في كونها رواية لا ملحمية، بل رواية «عادية»، تكتسب جمالها من كونها «عادية». رواية لا بد منها عن جيل الوسط الذي يحتفظ بذكريات نضال النساء الأوائل، وينقل المعركة من أرض الذهب في كاليفورنيا إلى الوطن الأم في تشيلي.

«صورة عتيقة» ليست أضعف مما ينبغي، فقط مساحة توقعاتنا كانت أكبر مما ينبغي. «ابنة الحظ» رواية عن فتاة تجاوزت كل الأحكام المسبقة في حياتها، وحددت خياراتها بنفسها، انطلاقا من مغامرة بدافع من رغبة طائشة في البحث عن حبيب تمثل بكل الأوهام. وتدور الأحداث توازيا مع حمى اكتشاف الذهب في أميركا، بمآسيها وأوهامها، بثرواتها وخسائرها، والتغيرات الاجتماعية التي واكبت ثورة الذهب تلك.

و«بيت الأرواح» رواية عن أجيال من النساء الرائعات، عاصرت أخراهن مأساة الانقلاب الدموي على الحرية في تشيلي. لكنها آمنت أن مهنتها ليست سوى الحياة وأن دورها ليس في تخليد الحقد و«إنما في تسويد هذه الصفحات بانتظار عودة ميجيل، في الوقت الذي آمل فيه بمجيء أيام أفضل وأنا أحمل الولد الذي ينمو في بطني. بنت الاغتصاب المتكرر أو بنت ميجيل، لكنها قبل كل شيء ابنتي أنا».

أما «صورة عتيقة» فرواية عن جيل الوسط بين المؤسسات الأوائل، والوارثات الأوائل، للمرأة الحديثة في تشيلي. المصورة التي تعلمت التصوير لعلها تستطيع أن تسجل أحلامها أو بالأحرى كوابيسها، لتشفى منها. فإذا بها من خلال عدستها تكتشف زيف الواقع وتسجل ما هو أبشع من الكوابيس، ومن ثم تشفى منها. تكتشف الحب المحرم في وسط الأسرة المحافظة، والحب المزيف المتواري خلف السحنة الرقيقة الباردة. تكتشف الفقر والبؤس بعيدا عن أسرتها البورجوازية. تكتشف الحياة من حولها فيما تحاول أن تكتشف خمس سنين أولى سقطت من ذاكرتها، وأخفاها الجميع عنها. وحين تكتشف سنينها الأولى تلك تكون قد اكتشف الحقيقة، وتعرفت أيضا على أبيها المجهول. كان لا بد لتلك الصورة العتيقة أن تبقى لتحتفظ بذكريات الأوائل وتفاصيل حياتهن، بما فيها من معاناة وسعادة وألم وأمل، لمن يأتي بعدهن.