مخطوطات من القرن التاسع عشر وكتب توزعت على مكتبات العالم

في مكتبة قدري قلعجي وابنه جهاد:

TT

ولدت، قبل عقود، لدى المراهق جهاد قلعجي هواية فريدة: جمع الكتب النادرة والمخطوطات والطبعات الاولى لكتب، شرط ان تتمتع بميزة صدورها خلال حياة المؤلف وليس بعد مماته. الهواية، التي يعود الفضل في زرع بذورها الى والده الاديب قدري قلعجي، نمت وتحولت بفعل الزمن «حبا شغوفا لا قيمة للحياة من دونه»، كما يقول.

تحتوي مجموعة جهاد قلعجي النادرة، على ما ورثه عن والده وما جمعه طيلة حياته من طبعات اولى لأروع ما كتبه ادباء وفلاسفة وشعراء لبنانيون وعرب امثال جبران خليل جبران، سعيد عقل، احمد شوقي، جورج غانم، ادفيك شيبوب، وديع ديب وخليل مطران، بالاضافة الى كتاب «الجداول» لايليا ابو ماضي الذي يحمل مقدمة بقلم ميخائيل نعيمة. وكتاب آخر «قارورة الطيب» ليوسف غصوب، ويحمل اهداء المؤلف الى صاحب احدى الصحف اللبنانية (الدبور) جوزيف مكرزل.

يختزن قلعجي على رفوف حديدية وداخل احد الصناديق كتبا، يعود تاريخ «ميلاد» بعضها الى القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، منها ما هو للشاعر ارتور رامبو وفولتير وكتاب «موبيديك» لهارمن ملفين، وكتب اخرى يجهل اسماء مؤلفيها، ربما بسبب الرقابة التي كانت تفرض في تلك الحقبة. وتحتل هذه المجموعة مكانة خاصة لديه، «لا يمكن ان ابيعها لذلك اضع لها سعرا باهظا حين يسألني احد عن ثمنها».

ويشرح قلعجي ان مكتبة والده الضخمة قد توزعت بين عدد من المكتبات والمراكز في لبنان والعالم. فبعد موته في العام 1986، وبعد اتصال مع ولي العهد السعودي آنذاك، الامير عبد الله بن عبد العزيز، عبر عبد العزيز التويجري، عمدت «مكتبة العزيز» الى حفظ نحو 15 الف كتاب وما يقارب 130 مخطوطة من مكتبة الاديب قدري قلعجي.

وهناك نحو 3000 كتاب سياسي وادبي في «معهد العالم العربي» في باريس، اشرف عليها الدكتور مردم بيك. وقد خصص لها جناح مستقل يحمل اسم قدري قلعجي. وسلم اكثر من 100 الف دورية ومجلة وصحيفة الى المركز التوثيقي في صحفية «النهار» اللبنانية، يتراوح تاريخ اصدارها بين بداية القرن التاسع عشر واواخر القرن العشرين.

ويحتفظ جهاد بما بقي من تركة والده الى جانب ما اشتراه ليؤلف مجموعته النادرة. ويلفت الى ان ميزتها تكمن في اجادته فن الشراء الذي تعلمه على يد والده وطوره لاحقاً بفضل ما اكتسبه من خبرات جراء ممارسته هذه الهواية. ولانه «ليس بالقدم وحده يقوّم الكتاب، انما بندرته ومضمونه وهوية مؤلفه»، ويرى ان «محتويات المكتبة الوطنية (اللبنانية) لا تتمتع بقيمة ادبية ضخمة رغم قدمها».

كما يجيد جهاد قلعجي، الاعتناء بكتبه فهو «الحبيب والطبيب» في آن واحد، من هنا حرصه على حفظها في درجة حرارة معينة. ولا يتوانى عن تقديم العلاج الملائم لها كلما اصابها فيروس او فتكت بها جرثومة. ويقول جهاد ان «جمع الكتب والتعامل معها، يمثلان الجزء الاهم من حياتي لا بل اعجز عن تخيل الحياة من دونهما». لذلك لا يتجرأ على المشاركة في معارض خارج لبنان خوفاً من «ارهاق مجموعتي، وحرصاً على توفير الراحة لها في شكل مستمر، لذلك ابتعد عن عمليات الشحن التي ستجعلها عرضة للضياع. ولست مستعداً لتحمل مأساة كهذه».

يحلم قلعجي، بتأسيس نوع من «الصالون الادبي»، مركزه لبنان، يضع فيه كل «كنوزه»، بعد ان يقرر اي فئة مؤهلة للبيع، كما يطمح الى ان يجوب العالم «للتنقيب» عما يغني به مجموعته عبر شراء اي كتاب يتطرق الى الشرق والعالم العربي وعبر انشاء شبكة اتصالات للتعاون مع مختلف الجامعات المستعدة لتقديم الدعم، عله بذلك ينجح في التعويض ولو بقدر بسيط عما خسره الشرق ابان الحروب والغزوات التي افرغته من ذاكرته، تلك التي تعاني بدورها «التقصير والاهمال اللذين يطاولان الثقافة، الى جانب ما قاسته المكتبات من سرقات وحرائق. ولم يبال العرب باستعادة ولو القليل من تراثهم الذي تحول شبه غنائم، تعرض في متاحف الغرب ومكتباته. فان اعظم المخطوطات العربية واهمها لياقوت المستعصمي موجودة في متاحف انجلترا وفرنسا ولا تقدر بثمن». واسفه هذا يشتد لدى التطرق الى الثقافة في لبنان كونها تعاني «ما هو اشد ايلاما من التقصير، انها اللامبالاة. فما من مسؤول يسعى لرصد مبلغ وان متواضع من ميزانية الدولة لتعزيز مكانة المكتبة الوطنية عبر شراء كتب قيمة او عبر توظيف اختصاصيين للبحث عن هذه النوادر. لذلك اتعاون مع احد المثقفين السعوديين لتحويل حلم (الصالون الادبي) حقيقة».

يخال البعض ان عدم الاكتراث الذي يصيب المسؤولين بالجملة قد تعداه الى الجمهور. غير ان ما يدحض هذا الاعتقاد، مشهد زوار مجموعة جهاد الذي يمكن التقاطه لدى مشاركته في احد المعارض. فهم يتوافدون من مختلف المناطق اللبنانية ما يثبت وجود «الكثير ممن يدركون اهمية اقتناء الكتب القديمة لما تمثله من ارث ثقافي». حتى ان بعضهم يفاجأون حين يلمسون تلك «الكنوز» بايديهم، ويسأل احدهم لم لا تُضم هذه النوادر الى مجموعة المكتبة الوطنية، بما انها قيد التأهيل والانشاء، لعلنا نسترجع ولو جزءا يسيرا من تلك «الذاكرة الوطنية» المنهكة بفعل الحروب والسطو والنهب والحشرات...؟

غير ان السؤال الاصح، هل تستحق المكتبة الوطنية المسحوقة، ان نأسف لاجلها على تفويت فرصة «زرع خلايا اصيلة» من كتب عمرها قرون، لتتوهج؟ ومن يكترث لها، في وقت ينهمك المراهقون بجمع صور وملصقات لنجوم «الاكاديميات» الحديثة، وتكتفي غالبية الشباب بسماع خطابات من النوع الذي يعيد رسم هيئة الاوطان وملامحها، كلما هبت رياح المصالح الخاصة، المتنكرة بزي «المفردات الواعدة» التي لا تفعل سوى تكريس الجهل.