قراءة جديدة للشعر الجاهلي تستعيد أثره الهارب

«غواية التراث» لجابر عصفور

TT

تبدو الكتابة عن الشعر الجاهلي اليوم، سعيا إلى استعادة نص منسي، يمثل اختيارا لغويا، واشتراطات جمالية، وتقاليد خطابية، باتت هامشية في النظر الأدبي المعاصر. ولأنها كذلك صار الاقتراب من النسق الناظم لتشكلاتها، وقيمها البلاغية، وأفقها الثقافي، مهمة تقع في صلب التنوير النقدي؛ وأضحى السعي لاستيعاب فضاءات تكونها، توقا إلى الكشف عن لحظة غير حسية، تلتبس فيها الحكاية بالتاريخ، والمتن بالقيم التخييلية المضافة، والمعرفة بتعقيدات اللغة.

قراءة الشعر الجاهلي في الإصدار الجديد للناقد جابر عصفور الموسوم بـ: «غواية التراث»، تتجلى بوصفها وسيلة نقدية لمراجعة قيم القراءة نفسها، وتحيين مفاهيم التأويل والتحليل وفق ما يشترطه النسق الفكري المعاصر ومكوناته النظرية والجمالية. وفي هذا المستوى فإن فعل القراءة ينصرف إلى المثول باعتباره تشوفا إلى استكناه المبنى الثقافي للشعر الجاهلي، وسعيا إلى استخلاص نسقه الذهني الناظم لأغراض: «الفخر» و«المديح» و«الغزل» و«الرثاء»، و«أشعار التمرد والصعلكة»، و«ملاحم الحروب والخطوب». والمحصلة أن تلقي هذه الأنواع الشعرية الشديدة الغنى والخصوبة، يتحدد باعتباره اشتغالا على التعدد الرمزي للشعر الجاهلي، وطموحا إلى ترويض الغازه وتنسيب دلالاته لأسئلة الحاضر.

وأغلب الظن أن جابر عصفور وهو من لا تخفى عاطفته تجاه الأدب القديم، ولا ولعه بالرواد من دارسيه، بدءا من طه حسين، وحتى أدونيس، مرورا بـ: عبد العزيز الأهواني ويوسف خليف، وشوقي ضيف، وناصر الدين الأسد، ومصطفى ناصف، يتشوف ربما إلى أن يقدم تنويعا جديدا على كتاب «في الشعر الجاهلي»، ذي الصيت الواسع، ينضاف إلى التنويعات المقترحة من قبل أولئك النقاد، التي تواترت منذ ما يزيد على خمسة عقود من الاجتهاد النقدي والاشتغال التاريخي والفيلولوجي على الأشعار والأخبار الجاهلية في المدونات الأدبية الكبرى التي صنفها أمثال الأصمعي وأبو زيد القرشي والمفضل الضبي، وغيرهم. هكذا، إذن، يتقدم كتاب «غواية التراث» إلى قارئه باعتباره استذكارا لدرس في الخطاب النقدي الحديث، وبوصفه تشخيصا لملمح ثابت في شخصية مؤلفه، عبّر عنها، ذات يوم، في إحدى حواراته بـ «التطلع إلى تقمص شخصية طه حسين، والتشبه به، وتمثل سلوكه، واستيعاب خطابه». وبتعبير أكثر دقة واختصارا، أن يكون طه حسين ثانيا، يكتسب معاني أخرى مختلفة. ويعيد إنتاج الوظائف المعرفية والنقدية النهضوية لـ «العميد»، في سياق أدبي يشهد تراجعا مأساويا للقيم الفكرية والإبداعية الموروثة عن حقبة التنوير العربي. ومن هنا يمكن فهم ذلك التأكيد، الوارد في مقدمة الكتاب الحالي، الذي يختزل مرامي القراءة في التماهي مع الصوت النقدي لطه حسين وتقمص أصدائه المتداعية في خطاب الحداثة العربية.

من هنا يتبين القصد الجدلي للكتاب، بما هو اختبار لقدرة التوافق بين خطي التنوير والحداثة، الأول بوضوح عقلانيته، وليبراليته، ورفعه القداسة عن النصوص. والثاني في رهانه على مطلق الإبداع، وإنصاته للهامشي والمقموع في الذاكرة التراثية. وبناء عليه، فقد كان بديهيا أن تحفل مباحث الكتاب الممتدة بين: «النموذج الأصلي للشاعر» و«مراتب الأنواع الأدبية»، مرورا بـ«سحر المعلقات»، و«الشعر والجن»، و«حكمة التمرد» بقراءات وتآويل خصيبة لهذا الجزء من الموروث الأدبي. قراءات تجانست، إجمالا، في كونها كتبت من منظور عاشق للشعر الجاهلي، مفتون بعوالمه ورموزه، منحاز لقيمه وظواهره الجمالية، كما تساندت في اصطفائها لأغراض ونماذج شعرية اعتبرت وقائعها وأخبارها مصدر إلهام للرؤى الإبداعية عبر عقود طويلة من الزمن. وبقدر ما تقاربت في تلك المظان فقد تقاطعت في استنادها على وعي بحداثة الشاعر الجاهلي، وتعاليه على عوارض الزمن، وانغراس نضحه في الوجدان العربي، عبر ما يستنبطه من موقف، وفكر، ونظر إنساني بصدد أقانيم: «الحرية» و«الحب» و«التمرد» و«فتنة الحياة». والظاهر أن جابر عصفور كان في قراءاته تلك، واعيا بالوقع الجمالي لموضوعه، وقوته التأثيرية، مما جعل مسعاه المركزي يتمثل في الكشف عن «الأثر العجائبي» لمبدأ «الغواية» الذي أشاد به في عنوان كتابه، وذلك برصد وقائع تحول النصوص من متون أدبية ذات وجود تاريخي إلى عوالم دلالية مسكونة بالأسطورة تلفها محكيات تباعد بينها وبين وجودها الأصلي. ولا يتأتى هذا القصد للناقد ـ في الغالب الأعم ـ إلا بتكييف آلياته التفسيرية بخبرات نقدية تنتمي إلى الزمن الحاضر، مما جعل قراءاته تفلح إلى حد كبير في جذبنا إلى مدارات سحر «النص الجاهلي»، والارتقاء بمداركنا إلى الأفق الفسيح لإحالاته الرمزية، ومن ثم التخفيف من غلواء إلغازه الذي ما انفك يرفد المشهد النقدي بنسغ السؤال.

هكذا تتباين قواعد «الغواية» المستثارة، ما بين «ذات الشاعر» الأسطورية، التي قد تمثلها شخوص بعينها كـ«عنترة بن شداد»، أو شريحة اجتماعية خاصة كـ «الشعراء الصعاليك»، وما بين «النصوص الشعرية» ذات الأثر الأسطوري كـ«قصائد المعلقات»، التي لم ينقطع الجدل حول حكاية تعليقها وزمنه وعدد من شملهم هذا التكريم الرمزي. ولعل تعدد مصادر الغواية التي استثارتها بديهة جابر عصفور في هذا الكتاب هي ما حدا به إلى انتهاج سبيل الفصل بين المضامين، عبر مقالات مستقلة، تنتهج طرائق تفسيرية مختلفة، ومنظورات بادية التباعد في ارتيادها لآفاق شعرية تنتمي إلى سجل رمزي واحد، ويسندها سياق زمني متماثل.

ولعل مذهب الكاتب إلى تنويع اقتراحاته القرائية، والجمع بينها ضمن كتاب واحد مخصص للشعر الجاهلي، هو ما يجعل هذا الإصدار يندرج ضمن عموم الأدبيات التنويرية للكاتب، ينضاف إلى رصيد مؤلفاته عن: «أنوار العقل»، و«الاحتفاء بالقيمة»، و«استعادة الماضي»، و«ذاكرة الشعر»، و«في محبة الأدب»، حيث ليس المقصود هو التعريف بالمضامين الجمالية فحسب، ولا إعادة استكشاف ما تنطوي عليه المتون من معنى، ولا حتى الخوض في القضايا التاريخية الخلافية، وإما الغرض هو الاحتفاء بما تمثله تلك الظواهر والنصوص من «قيمة إنسانية»، وجعل المتلقي ينساق مع تجليات «فتنة» الموروث التراثي الذي خلفه طرفة بن العبد والحارث بن حلزة وزهير بن أبي سلمي، ووضعه في صلب دائرة سحر مأثورات «عروة بن الورد» و«تأبط شرا»، ومن ثم جعل تلك النصوص تبدو وكأنها جزء من عالمه الذهني المألوف، يأنس بها ويستسيغ معانيها، ويلتذ بمضمونها الثقافي، كما يأنس ويلتذ بأي إبداع أدبي ينتمي لعالم اليوم.