فوز «حماس» يحرك المياه الراكدة في بركة الثقافة الفلسطينية

ميليشيات الإبداع الفلسطيني «الثوري» و«الحداثي» استبسلت في رفض الآخر

TT

انشغلت وسائل الإعلام طوال الأسابيع الماضية، بالتكهن بأسماء الوزراء المنتظرين في الحكومة الفلسطينية الجديدة, ونشرت تشكيلات عديدة مفترضة. لكن الملاحظ ان قوائم الترجيحات خلت جميعها من ذكر لوزارة الثقافة، أو حتى اسم الشخصية التي يمكن ان تتسلمها. وهناك رابط قوي بين غياب وزارة الثقافة الفلسطينية عن الترجيحات الصحافية، والفوز الكبير الذي حققته «حماس» في الانتخابات التشريعية الأخيرة، إذ شكل هذا الفوز قلقاً لقطاع من المثقفين يتخوفون من المرحلة المقبلة، ويتوقعون أن تكون «سوداء»، في حين انهم أنفسهم سبق ووصفوا المرحلة الحالية بأنها «سوداء» أيضا.

منذ إنشائها عام 1994، ووزارة الثقافة الفلسطينية عرضة لانتقادات كثيرة، فقد ولدت كثمرة لاتفاقات أوسلو، التي دشنت مرحلة فلسطينية جديدة، تتناقض ثقافيا مع التي سبقتها. وتشكلت الوزارة من ناشطي «منظمة التحرير» الذين رفعوا على مدار سنوات طوال، شعار «بالدم نكتب لفلسطين»، وكتبوا وفقاً لذلك، الأشعار والروايات والقصص والأبحاث، لكنهم وجدوا أنفسهم فجأة، بعد أوسلو، في ظروف مختلفة تماما. فمن كان بالأمس «العدو الصهيوني» اصبح يحمل صفة «الطرف الآخر» في أدبيات مسؤولي السلطة.

وإزاء الوضع الجديد، طرحت أسئلة جادة حول مسيرة الثقافة الفلسطينية. وأدرك ذلك، كثيرون من نجوم المرحلة السابقة، فآثروا الصمت الإبداعي، في حين أخذ آخرون بالمكابرة، ولم تكفهم المناصب التي أسندت اليهم في وزارة الثقافة، وأبوا إلا ان يحتلوا واجهة المشهد. ولهذا لم يكن غريبا أن يقول أحدهم لكاتب هذه السطور «عقدنا، نحن مجموعة من الشعراء، اجتماعا مع محمود درويش على هامش مهرجان جرش في الأردن، وناقشنا الوضع الذي وصلنا إليه، واتفقنا معه، أن نجعل الهزيمة التي منينا بها هزيمة جميلة نقدمها كذلك للجمهور كي لا يصاب بالإحباط».

كان ذلك قبل عودة درويش إلى أراضي السلطة. وهو الذي رفض، بذكاء، أن يأتي مبكرا إلى الأرض التي تشهد توابع الزلزال الثقافي لاوسلو، حيث وجد عديد من المثقفين أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه، رغم المكاسب الوظيفية. فالوضع المستجد، كان يعني تخلي هؤلاء عن كل ما قدموه أدبيا وثقافيا. وهكذا كان يمكن رؤية مثقف بارز، وهو موظف كبير في وزارة الثقافة، يظهر على التلفزيون الإسرائيلي، بعد سلسلة عمليات تفجيرية نفذتها المقاومة في إسرائيل عام 1994، ليتحدث عن برامج لدى السلطة سيضعها مثقفون كبار أمثاله، لتوعية الشبان الفلسطينيين بالمرحلة الجديدة، وعنوانها الأبرز السلام. ولا يمكن إغفال المفارقة التي حملتها تصريحات هذا الأديب الذي بنى مجده بصفته: «شاعر مقاومة».

أسند ياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية الراحل، وزارة الثقافة إلى شخص مقرب منه هو ياسر عبد ربه. وفي فورة التأسيس، كان طبيعيا، أن يعين عبد ربه مقربين له، من الذين عملوا معه في بيروت وتونس، وبالإضافة إلى من تبنوا في فترات سابقة الفكر اليساري والماركسي، وتخلى أغلبيتهم عنه لاحقا. عين عرفات ما يمكن تسميته أركان حربه من المثقفين، وهكذا وجد الروائي يحيى يخلف، نفسه وكيلا للوزارة.ومثلما حدث في باقي الوزارات، وبتخطيط من عرفات، أصبحت وزارة الثقافة، هي أيضا برأسين، أي قائمة على ثنائية الوزير والوكيل، وكلاهما يتبع عرفات، الذي يمنح كل منهما صلاحيات تتضارب في أحيان كثيرة، ولكن كل منهما يعود في النهاية لعرفات صاحب القرار الأخير.

ونتيجة هذه الازدواجية، وقعت مصادمات كثيرة بين الوزراء ووكلائهم. فهناك من الوزراء من أكل «علقة ساخنة» في مكتبه، وأحيانا وصلت الأمور إلى أن يستقل الوكيل، وهو دائما من حركة فتح ومقرب من عرفات، بوزارة مع جماعته، ويبقى الوزير في وزارته مع جماعته من الموظفين هو الآخر. لم يكن مطلوبا من وزارة الثقافة الفلسطينية، صناعة ثقافة، وربما من الظلم الطلب منها ذلك، في ظروفها المعقدة تلك. لذا فان أهم الإنجازات، نفذت بجهود فردية وتمويل غربي، ولم تكن في مجال الأدب المكتوب، وإنما في السينما. ومن أهم إنجازات وزارة الثقافة تنظيمها لمعارض الكتاب «الدولية» في فلسطين، التي تعطلت بسبب انتفاضة الأقصى، واستأنفت العام الماضي.

ويؤخذ على هذه المعارض، انعدام الشفافية المالية. ففي نهاية كل معرض كان يتم الإعلان، بأنه وبأوامر من عرفات تم شراء جميع نسخ الكتب في المعرض لتوزيعها، على المدارس والمراكز الثقافية. وكانت تتولى عملية الشراء، شركة تحمل اسم «البحر»، تحقق أرباحا كبيرة من شراء، ما قيل انه، اكثر من مليون كتاب. ولم يستغرب كثيرون ورود اسم هذه الشركة، في ما بعد، كواحدة من الشركات، التي يحقق في ملفات فسادها.

ويصف الشاعر سميح فرج ـ عرف كواحد من أبرز الأصوات الشعرية في الأراضي المحتلة قبل مرحلة أوسلو، وواصل العطاء بعدها ـ الوضع الثقافي الفلسطيني بأنه فاسد، موجها نقدا مريرا للمؤسسة الرسمية، قائلا: «الوضع الثقافي بعد أوسلو تميز بالفساد. وكان الفساد الثقافي في بعض جوانبه، استمرارا للوضع الفصائلي السابق على أوسلو، وأخذنا نرى كتاباً معينين يرسلون للخارج للمشاركة في المهرجانات، واقتصرت طباعة الكتب عليهم». وروى فرج لـ«الشرق الأوسط» تجربة مريرة له في طباعة ديوان شعري في وزارة الثقافة، وقال بسخرية: «تصور حتى السكرتيرات أرسلن لتمثيلنا في بعض الدول، في حين غاب المبدعون».

في ظروف كهذه، شعرت أجيال جديدة من الأدباء بعدم جدوى الكتابة، فابتعدوا عن المواضيع الوطنية أو ذات البعد الإنساني، واغرقوا في الأدب الذاتي. وفي ما يشبه التحول في الموضة أصبحت «الكتابة الحداثية» أو «ما بعد حداثية» كما يحلو للجيل الجديد تسميتها، هي الشائعة. وافرز هذا النوع من الأدب ما يشبه الميليشيات، مهمتها الهجوم، على أي كتابة مغايرة، مثلما كان يفعل الجيل القديم عندما كان يوجه سهام الغضب لكل كتابة مغايرة للسائد الثوري آنذاك. لذا لم يكن مستغربا أن يتم، طوال سنوات، تصنيف جبرا إبراهيم جبرا، كأديب للبرجوازية الفلسطينية. أما في المرحلة الجديدة، فقد اصبح أي كاتب يتطرق لموضوع وطني أو يذكر اسم فلسطين في كتاباته، يصنف في خانة «التخلف الثقافي» ويوصف بأنه «غير حداثي».

ومثلما لم يحقق «أدب الثورة» السابق لأوسلو، إنجازات يعتد بها، فشل «الأدب الذاتي» الجديد في ذلك أيضا، لأنه كان صدى وتقليدا لتجارب ادبية عربية أخرى، قطعت مستوى متقدما من النضج. وما جمع بين الحركة الأدبية قبل أوسلو وبعدها، هو التشابه في ضيقها من أي رأي مخالف، وتحيزها للاتجاه الواحد، والبعد الأوحد، وامتلاك الحقيقة.

وفي حين كان الكل مستعدا، من الجيلين القديم والحديث، لخوض المعارك دفاعا عن وجهة نظره، لم يكن أي من هؤلاء مستعدا لخوض معركة جدية دفاعا عن الحريات مثلا أو ضد الاعتقال السياسي.

كان مفهوما بعد تجربة السلطة الفلسطينية، غير المشجعة، أن تصل الأمور إلى طريق مسدود، وتمكن قليلون، بذكاء نادر، ان يتجنبوا الانغماس في ما يدور، بعيدا عن الزلازل وتوابعها، ومن بينهم الشاعر محمود درويش، الذي وقف عام 1999، في مهرجان توزيع جوائز فلسطين، وبحضور ياسر عرفات، محذرا من استمرار الفساد ومتسائلاً، عما إذا كانت السلطة تريد أن تتجه نحو أفق الديمقراطية والحرية أم إلى الدكتاتورية الصحراوية.

في ظل مرحلة الفساد والتردي، اندلعت انتفاضة الأقصى، التي قيل أنها لو لم تندلع في مواجهة الاحتلال، لانفجرت في وجه السلطة. وبعد خمس سنوات من الانتفاضة الطاحنة، نبه فوز حماس المفاجئ، المثقفين، إلى أن الجمهور، الذي غيب طويلا قال كلمته، وان هوة سحيقة تفصلهم عن هذا الجمهور.

كيف يمكن قراءة مرحلة حماس المقبلة ثقافيا؟ يرى سميح فرج، ان «الإبداع لا ينفصل عن الالتزام بمنظومة الثوابت التي تمثل الحلم الفلسطيني غير الخاضع للمناورات السياسية»، ويضيف «أما المسألة الثانية، فهي أن الإبداع يحتاج لمساحات من الحرية والتعددية، وأنا لست بخائف، لأن ما أشاهده، من الاخوة في حماس يدور في دائرة احترام العقل في الخطاب واتمنى أن يتسع ذلك ويدوم. أما إذا تم إقحامنا في الأحادية، حينئذ نضع الأيدي على القلوب، ولا مبرر لهذا الآن». ويستطرد فرج «أتمنى على «حماس» فتح باب الحوار مع المبدعين وتلمس هواجسهم وتجاوز ما دفعوا ثمنه من فساد المرحلة السابقة».

أما الشاعر الشاب نجوان درويش، فيقلل من مغزى فوز حماس «في انتخابات مقيدة وبائسة تجري في سجن كبير تحت الاحتلال». أما عن تأثير هذا الفوز على الثقافة الفلسطينية فيرى درويش ان «سلطة حكم ذاتي على رأسها حماس أو غير حماس سيكون تأثيرها محدوداً للغاية. فالثقافة الفلسطينية اليوم، هي ثقافة شتات، وما ينتج في الوطن المحتل هو جزء منها وليس كلّها. والجزء الذي تمارس عليه سلطة الحكم الذاتي، سلطتها المحدودة لا يتجاوز العشرة بالمائة من أراضي فلسطين». ويلاحظ درويش أن «المجتمع الفلسطيني داخل الأرض المحتلة بحكم تجاربه وتعدديته، ليس مجتمعاً داجناً لتفرض عليه أية جهة مفاهيمها».

الأسئلة المطروحة الان هي من نوع: هل شكل فوز حماس مرحلة جديدة في الحركة الثقافية الفلسطينية، أم هو إعلان صاخب وكبير عن انتهاء مرحلة عاشت طويلا موتا سريريا؟ وهل هناك ما يبرر الخوف من فوز حماس؟

من السابق لأوانه تقديم إجابات، لكن من المؤكد، بان الأعمال الجيدة التي تعيش طويلا، سيتم إنتاجها على يد مبدعين بعيدين عن المؤسسة الرسمية سواء كانت في واجهتها حركة «فتح» العلمانية، أو حركة «حماس» الإسلامية التي ستخلفها في الأسابيع القليلة المقبلة.