مع «سلام» أصبح الشعر للجميع وعلى مدار السنة

عندما تنزل القصيدة عارية إلى الشارع

TT

احتفل العالم أول أمس بيوم الشعر، ثمة من فضّل الأساليب الإلقائية القديمة المعهودة، وهناك من أضاف إلى القصائد النغم الموسيقي، أو ترجمها لوحات أو رقصات.

فلم يعد الشعر يعيش وحيداً أو معزولاً وإنما تغازله الفنون كلها ويغازلها. «سلام» هو نمط تعبيري شعري بدأ يغزو العالم، قائم على دمقرطة القصائد، وإنزالها من عليائها إلى قارعة الطرقات حيث تستأنس بـ«الراب» و«الهيب هوب»، والانفعالات العفوية، والارتجال الاحتجاجي. إحدى فرق الـ«سلام» زارت المغرب أخيرا، ولاقت صدى لافتاً.

فما هو هذا الفن، ولماذا يقبل عليه الشبان بشهية؟ وهل بعد الـ«سلام» من مبرر لتخصيص يوم أو موسم للشعر، أم انه صار في متناول الجميع وعلى مدار السنة؟

في الثمانينات من القرن الماضي، ظهر «سلام» SLAM في مدينة شيكاغو الأميركية، ثم انتشر فيما بعد في العالم. والـ«سلام» شكل تعبيري وسط بين الشعر والراب والغناء بدون مرافقة موسيقية، يعبر عن عنف الحياة اليومية التي يعيشها في الغالب شبان الأحياء الهامشية للمدن الكبرى.

وقد نال الـ«سلام» شهرة كبيرة على يد الشاعر صول وليامس الذي خلد هذا الضرب من الشعر في فيلم «سلام» للمخرج مارك ليفن وحصل فيه على جائزة أحسن ممثل في مهرجان صوندانس. كما استطاع هذا الشاعر المغني فصل الـ«سلام» عن الراب، بعدما صار هذا الأخير خاضعا للمنطق التجاري، ليمنحه هوية فنية مستقلة للاحتجاج السياسي في أميركا. يقول صول وليامس عن فلسفته في السلام: «ما أغنيه ليس مهما. المهم أنني أغني بالغريزة. وما يهمني هو الصوت والإيقاع. عندما كنت صغيرا كنت لا أحب الوصاية وأريد أن أرقص، فقط». هذه الحرية المتمردة هي روح الـ«سلام» التي تغذي اليوم أحلام الشباب في بقاع مختلفة من المعمورة.

عراء بأسماء مستعارة

في فرنسا برز هذا التعبير الحضري منذ عشر سنوات، واستطاع أن يفرز مجموعة من الأصوات النوعية كمجموعة H 129، وبيلوت لو هوت، الجسم الكبير المريض، وسبوك أوركسترا، إلخ. وقد تعارف أعضاء مجموعة H 129 في المقاهي الباريسية ومباريات الـ«سلام»، حيث كانوا يشاركون منفردين في المنافسات الكلامية التي كانت تنظم بغرض اكتشاف الأصوات الواعدة. وكما شرح لنا ليور، أحد أعضاء المجموعة: «القاعدة بسيطة إذ يكون هناك جمهور ولجنة تحكيم ينقطان المشاركين بالتصفيق والتشجيع دون أن تتجاوز إسهاماتهم ثلاث دقائق حتى يتسنى للجميع المشاركة ديمقراطيا في اللعبة. أما في ما يتعلق بالنصوص الملقاة، فهي إما شعر شخصي يهتم بالإيقاع الخارجي كالقافية، والسطر الشعري... وإما شعر يعجبنا كيفما كان نوعه كلاسيكيا أو حديثا أو أسماء دليل الهاتف؛ علاوة على الأسماء المستعارة التي يختارها ممارسو هذا الفن تظهر مدى انصهار الفرد في الجماعة بعيدا عن النرجسية الفردانية وأمراض الشهرة. ويتمثل الدرس في النهاية في التنفيس الجماعي عن الذات بالكلام واقتسام اللحظات الشعرية القوية بالإنصات للآخرين.

من مهاجرين إلى سفراء

رأت مجموعة 129H النور سنة 2001 في ضاحية باريس. وهي أول مجموعة حقيقية لـ«سلام» في بلد فولتير. وقد التقى أفرادها: رودا، نيو بلاد وليور، في حي منيلمونتون، المعروف بهجرته القديمة والكثيفة. واستطاع هؤلاء، الذين لم يتجاوزوا العشرينات من عمرهم، أن يفرضوا صوتهم وينشروا هذا الفن بواسطة الورشات التي ينظمونها في المدارس، والجامعات ودور الشباب، بالإضافة إلى الحفلات التي ينظمونها في المقاهي، والمسارح والشوارع. ثم خرجت الفرقة من فضاء فرنسا الضيق إلى أفريقيا، فزارت المغرب، مالي، وقريبا مصر. وهكذا فثقافة «سلام» تسندها قيم إنسانية قوية تسعى لنشر مفاهيم المواطنة والتضامن والإبداع التي تفتقد عادة في المجتمعات الرأسمالية الكبرى أو المجتمعات النامية التي تنخرها الأزمات من كل حدب وصوب. كما أن الفرقة، كغيرها من مجموعات الـ«سلام»، يضبطها قانون الجمعيات، وفي هذا السياق كانت سباقة إلى تأسيس دينامية جمعوية فعالة مع شركاء آخرين كثنائي دروبي وطيشا النسائي والجسم الكبير المريض، وجون بوك، لإشعاع أكبر لهذا الفن في فرنسا وخارجها. مما جعل ثقافة الـ«سلام» تصير شكلا جذريا، لمقاومة ثقافة الاستهلاك وعنف السلطة والهامش، لا محيد عنه لإعادة الأمل لشباب الضواحي، بدل الانحراف الذي لن يؤدي بهم سوى إلى السجن أو الهاوية.

في مدينة الرباط ، عرفت الورشة التي نظمتها فرقة 129H من 6 إلى 10 المنصرم، بدعوة من «المركز الثقافي الفرنسي»، نجاحا كبيرا؛ حيث حضرها شبان من مختلف الأعمار. فركزت هذه الورشة على التعبير الكلامي والجسدي للمشاركات والمشاركين من جهة، وتقنيات الكتابة الشعرية بالفرنسية والعربية من قافية، وأبيات، وتناظر صوتي، من جهة أخرى. ودافعت خلفية هذا العمل التربوي عن فكرة أن الكتابة ليست دائما إكراها وواجبات مدرسية قاسية تنفر الشباب، بل يمكنها أن تكون أحسن وسيلة للخروج من سجن الذات أو الحي أو تقاليد المجتمع البالية إلى رحابة الحرية الإبداعية. وتوجت الورشة بالحفل الذي أحيته الفرقة بمعية المشاركين في الورشة الأدبية بالمركز الثقافي لأكدال الذي يوجد في حي راق تسكنه بورجوازية لا تقرب كثيرا الفضاءات الثقافية للمدينة. ومع أن هذا المركز أنجزه الاشتراكيون الذين يسيرون الحي والحكومة، فإنهم لم يعملوا الكثير من أجل الثقافة وإشعاع هذا المركز الجديد الذي يدبر بإمكانيات متواضعة. ورغم هذه المعيقات، حج الجمهور غفيرا، وتابع الحفل بتأثر كبير نظرا للتلقائية التي ميزت إسهام شعراء وشاعرات الورشة الذين أبانوا عن إمكانيات ارتجالية وشعرية هائلة، دون أن ننسى طيشا، ليور ونيو بلاد الذين صالوا وجالوا بنصوص يختلط فيها الاسفلت بالورود، والتمرد بالبناء أو القتل الرحيم باستغلال المرأة. ودامت هذه المتعة النادرة ساعة ونصف الساعة لم تشف غليل الجمهور الذي استمتع بنصوص قوية وخرج وفي رأسه قصائد مدوية ومغايرة على لسان كل من ليور، إيميلي، نيو بالد، أسماء، محمد، ياسمين، مريم... خلخلت تصوره للنص الشعري، والشعراء، والغناء والتلقي.

عطش الشباب للجديد

نجاح هذه التجربة، التي ليست الأولى من نوعها في المغرب، تكشف عن تعطش الشباب الدائم لأشكال تعبيرية جديدة. فقد نجح الكثير من الفرق الموسيقية الشابة في تكييف الأشكال الموسيقية الغربية مع الجذور المغربية، كما هو الحال مع فرقة الراب الشهيرة آش كاين )ماذا هناك باللغة الدارجة المغربية، من مدينة مكناس أو فرقتي هوبا هوبا سبيريت )الروك( التي حازت عدة جوائز عالمية، وضركة )الصبار بالدارجة المغربية(، من الدار البيضاء. وبهذا المعنى، سيكون الـ«سلام» وسيلة إبداعية أخرى تعيد جمهور الشباب إلى الشعر وتمكنه من الإبداع لبلورة شخصية إنسانية متفتحة. كما قد تحرر الشعر في المغرب أيضا من الصورة القديمة والمتجاوزة التي يقدم بها في الأمسيات وعبر وسائل الإعلام. إذن، لنصغ السمع أخيرا لليور مغني 129H وهو يقول لنا «إنزل إلى بئر أعماقك.. استجمع نقط ضعفك.. وكن قويا.. فالقراءة والكتابة سيحررانك تماما»، لأن هذه النصيحة هي روح القصيدة التي تنزل عارية إلى الشارع لتغير العالم.