مكان مركز التجارة العالمي: «برج الحرية» المكبل بمليارات الدولارات

حلم المهندس دانيال لبسكند هل يحوله الجشع إلى كابوس؟

TT

تحلّ بعد أشهر، الذكرى الخامسة لهجوم 11 سبتمبر (ايلول)، على مركز التجارة العالمي في نيويورك. لكن يبدو ان حماس التضحية والبطولة خلال السنوات الاولى لم يقدر على مواجهة حساب الربح والخسارة. ولهذا، ربما لن يتم البدء بتشييد المركز الجديد في سبتمبر المقبل، كما خطط لذلك. كما يبدو ان العناية الكبيرة التي أعطيت للتصميم الهندسي ورمزيته قد أصبحت في آخر سلم الاهتمامات. فرغم العروض الكثيرة التي استدرجت، والعناية الكبيرة التي أعطيت للتصور المعماري، لم تعد الناحية الجمالية والأبعاد الوطنية للصرح المبتغى هي التي تشغل بال الأميركيين، وكأنما دخلت القضية في متاهة عقيمة.

أعلن، في الاسبوع الماضي، جورج باتاكي، حاكم ولاية نيويورك، انه سيمنح مهلة جديدة للجانبين اللذين يشرفان على إعادة بناء المركز: مايكل بلومبيرغ، عمدة مدينة نيويورك، التي تملك الارض، ولاري سلفرمان، بليونير العقارات الذي استأجر الارض والمبنى، منذ قبل الهجوم الارهابي.

يدور الخلاف حول طريقة وفترة وتصميم بناء أربع عمارات، بالاضافة الى «برج الحرية»، الذي سيكون اعلى برج في اميركا (540 مترا). يكلف البناء أكثر من سبعة مليارات دولار، في ما ترتفع تكلفة تشييد «برج الحرية» وحده الى نصف هذا المبلغ.

ويختلف الجانبان حول مواضيع كثيرة منها ان المقاول يريد بناء وحدات مكتبية في كل المكان (لأن مداخيلها ستكون مرتفعة، وعقود ايجارها ستكون طويلة المدى). لكن العمدة يريد أن تكون بعضها شققا سكنية (بسبب ضغوط من المواطنين). ويريد المقاول ان يمول كل البناء، لكن العمدة قال ان رصيد المقاول لا يسمح بذلك.

ورفع المقاول قضية ضد لجنة تعويضات ضحايا هجوم 11 سبتمبر، وقال ان الخمسة مليارات دولار التي دفعت له هي اقل من قيمة البرجين اللذين دمرهما الهجوم. وفي رأي العمدة ان هذه ليست أول مرة يجادل فيها المقاول حول التعويض، واعتبر ان الاستمرار في القضايا والاستئنافات يؤخر إعادة البناء.

واشتكى المقاول أيضا من انه يدفع لمدينة نيويورك كل شهر عشرة ملايين دولار ايجارا لقطعة الارض التي كان عليها المركز التجاري. لكن العمدة قال ان الايجار ليس عاليا.

نحر الوطنية بالمال والسياسة

انتقلت المشكلة بين المقاول والعمدة الى صفحات الصحف وشاشات التلفزيونات. واشتكى المقاول بالقول: «عمري 74 سنة، وسأموت قريبا، واريد ان اشاهد مركز التجارة العالمي وقد بني مرة اخرى. كيف يقولون انني اماطل في البناء؟»، ورد العمدة مستعجلاً بدوره انجاز المشروع، معتبراً «انه موضوع وطني وتاريخي. هذا ليس أي عقد مع أي مقاول لبناء أي مبنى. نحن لا نقدر على الانتظار».

وتطورت المشكلة الى جدل حول وطنية كل من المقاول والعمدة. هل يقود الجشع المقاول؟ هل تقود السياسة العمدة؟ هل يخطط العمدة للتخلص من المقاول؟ ما هو موقف لجنة عائلات ضحايا الهجوم؟ ألا يقودها الجشع هي نفسها، لأن العائلات ظلت تشتكي من قلة التعويضات؟. ودخل المقاول في مشكلة أخرى مع شركة التأمين التي أمنت مركز التجارة العالمي قبل هجوم 11 سبتمبر. دفعت له الشركة ثلاثة مليارات ونصف مليار دولار مقابل خسارته. لكنه قال انها يجب ان تدفع له ضعف ذلك لأن المركز تعرض لهجومين بطائرتين، وليس هجوما واحدا بطائرتين.

تصميم له مغزى ومعنى

أما لماذا سمي «برج الحرية؟»، فلأن ارتفاعه سيكون 1776 قدما، وهو رقم السنة التي نالت فيها الولايات المتحدة استقلالها. ولأنه سيحوي على رموز وتابلوهات لتاريخ الولايات المتحدة. ولأنه سيعتبر هجوم 11 سبتمبر هجوما على حرية اميركا، ولهذا فإن اعادة البناء معناها انتصار الحرية.

فاز، قبل اربع سنوات، هذا التصميم من بين آلاف التصاميم، وذلك بسبب «انحيازه نحو المستقبل، لا نحو الماضي»، كما قال واحد من اعضاء اللجنة التي اختارت التصميم، واضاف «اهملنا تصاميم كثيرة ترمز الى الهجوم، وقلنا انها تشاؤميه. لكن تقديس الحرية يدعو للتفاؤل وللنظر نحو المستقبل». وقال باتاكي، حاكم الولاية «هذا رمز شجاع وآمن وراسخ». وقال العمدة بلومبيرغ «لأجيال وأجيال، سيكون هذا المبنى رمزا للتصميم، ومنارة للناس من كل أنحاء العالم».

أمن ومنارة للحرية

فاز هذا التصميم، للمهندس الأميركي البولوني الأصل دانيال لبسكند، لأن أساسه صلب، وبمقدوره مقاومة الهجوم على المركز التجاري، كما حصل عندما أدخل الارهابيون سيارة ملغومة الى مرآب المبنى، وانفجرت وكاد المبنى ان يسقط. لهذا صممت الطبقات العشر الاولى لتقاوم أي انفجار قوي (لا يشمل التصميم بناء كراج تحت المبنى).

ومثلما ان العشر طبقات السفلى اساس صلب، صممت الطبقات العشر العليا لتكون خالية من الناس، مجرد طابق فوق طابق ليكون البرج في شكل ابره تتجه نحو السماء. وفي أعلى الابرة كرة زجاجية تطل على نيويورك (من نفس ارتفاع مركز التجارة العالمي القديم: 1362 قدما). وبعد ذلك يمتد المبنى في شكل هوائي عملاق (ستستخدمه شبكة تلفزيون محلية لإرسال برامجها)، في أعلاه منارة ترسل ضوءا متقطعا، سميت «منارة الحرية». ورغم ان المنارة لن تكون شعلة مثل الشعلة التي تحملها سيدة تمثال الحرية (في مدخل ميناء نيويورك)، تعمد مصمم المبنى الربط بين الاثنين، بين «شعلة الحرية» و«منارة الحرية».

خيبة المصمم دانيال لبسكند

وقال دانيال لبسكند، المصمم الأساسي للمبنى «سترى شعلة الحرية ومنارة الحرية من على بعد، لتأكيد التزام الولايات المتحدة بالحرية، في الداخل والخارج. إذ وجدنا ان تخليد الحرية هو أحسن رد على الهجوم الارهابي علينا». ستكون الطوابق السفلى مكاتب ومطاعم ومتاحف، وسيكون هناك متحف يخلد فلسفة الحرية الاميركية، وستحيط بأسفل المبنى حديقة واسعة فيها عبارات تذكارية من ضحايا الهجوم أو عائلات ضحايا الهجوم. ومرة أخرى، وضع اعتبار للأمن في تصميم الحديقة. سيحيط بها سور قصير يمنع دخول سيارات ملغومة، ولن يكون السور عاليا حتى لا يقلل من روعة المكان.

لكن لا بد من الانتظار حتى تصبح كل هذه التصميمات حقيقة، وذلك لأن المشاكل بين المقاول والعمدة وعائلات الضحايا معقدة، ولأنها انتقلت الى المحاكم، ولا يعرف متى ستنتهي.

وربما سيضطر المسؤولون الى تأجيل بدء العمل بالمشروع، إلى ما بعد سبتمبر القادم، حتى تنتهي التعقيدات القانونية والسياسية والمالية.

كل ما يحدث اليوم، يدلل على فجوة هائلة بين التصميم الذي وضع والمعاملة التي يلقاها. فمصمم المشروع المهندس دانيال لبسكند، يضحك اليوم وهو يرى إحدى الحدائق التي رسمها تتقلص لصالح زيادة عدد المكاتب، والنصب التذكاري هناك نية بتغيير ملامحه بهدف تأمين موقف لباصات السياح. لا يملك هذا المهندس الواقعي، إلا ان يقول: «هذه هي الديمقراطية، انه كفاح مليء بالتنازلات».

لبسكند كان يحلم لهذا الموقع الرمزي بخمسة أبراج حلزونية، وفكرة هندسية مختلفة تماما، عن تلك التي اختيرت اليوم، من ضمنها الإبقاء على حفرة كبيرة لذكرى الضحايا، لكن توجهه هذا اعتبر عاطفيا ووجدانيا أكثر مما يحتمل المزاج النيويوركي. هذا الأوروبي الأصول، اضطر في النهاية لأن يدخل تعديلات جذرية على فكرته الأولى، كي يرضي المصالح من ناحية والسيكولوجيا الأميركية من ناحية أخرى، وقد يكون في المستقبل مضطرا للمزيد.