تساؤلات تقنية أمام الثقافة العربية

الفطنة الاصطناعية تخلق مشكلة حقيقية للذكاء الإنساني في عالم يتطور كل رمشة عين

TT

ظواهر حسن ناصر حسين ما هي أهمية الأسئلة التي تشغل العقل العربي الآن، وبأي قدر تتصل هذه الأسئلة بوضعنا العام وبصياغة مستقبلنا؟ لا شك في أن خطورة سؤال كهذا تنطوي ضمناً على التصدي بالفحص والامتحان لمناخنا الفكري ولنوع مشاركتنا في المشهد الحضاري الراهن. هل يمكن الطعن منطقياً بوجود ضرورة نابضة لاعادة قراءة المشهد الثقافي العربي واعادة ترتيب الأهميات الممنوحة لجدول اسئلتنا التقليدية؟ ربما يكون هذا هو الزمن الحرج، لن تنجو منه الا الثقافات القادرة على تحديث هياكلها وايجاد مكان لها في الغد!! استعرنا عنوان هذا المقال من عنوان مماثل كتبه (فرانك شيرماخر) ناشر واحدة من أهم الصحف الألمانية. والمقال هو دعوة لدفع المشاركة الأوروبية في المشهد الحضاري، الثقافي الجديد، ولتأسيس دور أكثر فعالية من دورها الحالي المحدود مقارنة بالدور الاميركي. لا تختلف الأسئلة المطروحة أمام الثقافة الأوروبية عن حقيقة الأسئلة المطروحة كذلك أمام الثقافة العربية أو أية ثقافة اخرى مهما اختلف نوع وأهمية مشاركتها في التطور التقني المعلوماتي.

هنا... الآن.. عالم جديد ينمو وقرننا الذي نخطو أول خطواته مفارق بشكل اساسي لقرننا الماضي، ارمش وسيفوتك شيء ما، الطامة هي أن الذي سيفوتك اكبر بكثير مما كان سيفوت شخصا اخر في اجيال سابقة. نحن مأخوذون بالمفاجأة فعلياً كل اسبوع. مأخوذون بالاكتشافات العلمية والقفزات التقنية في كل حين. ومع هذا ما زلنا نفتقر لمنهجية، لرؤية تحليلية تصنيفية تحدد نوع تعاملنا مع تطور كاسح.

يحل (جي كريغ فينتر) شفرة الجينات البشرية، ونحن نعامل هذا الاكتشاف الاخطر في حياة الانسان وكأنه ليس بأكثر من اكتشاف مختبري لا علاقة له بحياتنا، أو ربما مجرد تحقق لاحق لنبوءاتنا القديمة! شكل كامل مختلف للحياة ولليوم تتم صياغته بعيداً عنا، يصدر الينا نعيشه غير عابئين باكتشاف الاختلاف الذي سيحدثه في خريطة علاقاتنا وجغرافيا مفاهيمنا.

مجالات جديدة لأسئلة جديدة نحن بلا ريب طرف فيها. معنيون بها.. ستحدد شكل حياتنا في المستقبل القريب.

لم نخضع علاقتنا بالحاسوب واعتمادنا المتزايد عليه (أو اعتمادنا الحتمي عليه في المستقبل بالنسبة لدول عربية تفصلها مسافات شاسعة عن استخدامه الآن) للمراجعة والتمحيص. لا نفكر في بنيانه العبقري الا حين يتوقف النظام System عن العمل بسبب لوثة الحب (الفايروس المعروف).

يتنبأ خبير الحاسوب (راي كورزويل) وهو واحد من المنظرين المهمين للثقافة الثالثة أنه في المستقبل القريب جداً، وهذا ما قد نشهده في حياتنا، سيتفوق الحاسوب على الدماغ البشري! ومع هذا ففي بلدان كثيرة ليس هناك من يعرف هذا الاسم، على الرغم من أنه مؤلف كتاب واسع الانتشار في اللغة الانجليزية (عصر الماكنة الروحية)، من أهم التنظيرات التي صدرت عن صدى التأثير الذي ستحدثه الماكنة الروحية في عصرنا. سنعود الى التعرض لهذا الكاتب وعن مكانته بين المثقفين الطليعيين في زمننا هذا! يقول شيرماخر إن الانتلجنسيا الأوروبية تدخل القرن الواحد والعشرين بصمت غير عابئة بهذه القضية الجوهرية نتيجة عنادها أو ربما حماقتها!.

يمكن بالتأكيد تخيل المثقفين يرتجفون مرتبكين امام هذا الجهاز، اما نسخة جديدة من Word -processor مثلا، الغضب الذي يصله المثقف عند نقطة عدم التآلف، صعوبة المواصلة تخلق نوعاً من الكراهية للحاسوب أو التعامل معه ليس باعتباره الموضوع الاساس في ثورة كبرى بل مجرد تحول بسيط من الطابعة الى الحاسوب ومن ثم الى الانترنت! قد يربط البعض تقنية الحاسوب ودخولها الطوفاني في حياتنا بظهور وتبني وسائل تقنية اخرى مثل الثلاجة أو السيارة في السابق. سيكون هذا بالتأكيد خطأ فادحاً، لأننا لن نجد سبباً لدحض رأي السيد كورزويل القائل بأن تقنية الحاسوب ستأتي خلال السنوات العشرين القادمة بتغيرات ضخمة واساسية لحياتنا وشكلها، وبأكثر مما حدث في القرن العشرين برمته! اما نحن فما زلنا مشغولين بأسلاكنا وموصلاتنا ونقاط الكهرباء، باكتشاف القدر البسيط من الحاسوب المتعلقة بعملنا، بينما اناس اخرون مشغولون ببرمجة مستقبلنا كله!! يدعي (جارون لانيير) ان أوروبا توقفت عن التفكير ولكنها مع ذلك ستسهم بانتاج البرامج Software. سيختلف الدور الأوروبي في العصر المقبل. سنتمكن في القريب من توجيه الاسئلة التي اثارها فلاسفة الغرب عن الوجود والوعي والوهم الى الحاسوب، وسيتمكن الحاسوب من استخدام برامج كتبها في الاساس كانط وهايدغر للاجابة على هذه الاسئلة.

قبل سنوات اقترح جارون لانيير مصطلح Virtual Reality المصطلح الذي سيناقشه بذكاء استثنائي الكاتب امبرتو ايكو فيما بعد. لقد اسس جارون شهرته الحالية على عدد من البرامج المعروفة باسمه ويعتقد جارون لانيير ان التطور التقني الآن بصدد تأسيس الفطنة الاصطناعية وهذه ترجمتنا المقترحة لـ Artificial Intelligence. ولعلنا نستعير من اجل التوضيح قول واحد من الداعين الى تأسيس فطنة صناعية خاصة بالانترنت حين يصف مستقبل معرفتنا (حين نربي طفلنا القادم لن نتحدث له عن الاشجار والزهور والاسنان، لأنها اشياء لا علاقة تجمعه بها. سنتحدث له عن الملفات الالكترونية وعن تصنيفاتها وصيغها الالكترونية، لأنها الاشياء التي لطفلنا ولنا ايضاً خبرة بها).

لهذه الفطنة، الذكاء الجديد، اخطاء من نوع اخر كما يرى لانيير. هناك اخطاء في البرمجة ليس عمانوئيل كانط أو ارثر شوبنهاور اوفريدريك نيتشه بأكثر من نسخ مصابة بخلل برمجي معين، والفلاسفة كلهم كما يقول لانيير، وهو رأي منير حقاً: اخضعوا البشر لتجريب النسخ الأولية غير المحسومة من برامجهم Beta - Testing Software.

اليس من المدهش بقدر كبير تلك الحدود البعيدة التي وصلتها النخبة التقنوية في القرن الجديد! بيل غيتس، يجمع ليوناردو دافنشي ليخبرنا عن نفسه، جي كريغ فينتر يقتحم غموض التركيب الجيني محاكياً بذلك رحلة كولومبس الاستكشافية ولكن في خلية واحدة. راي كورزويل واحد من أهم الباحثين في الثورة التقنية وصاحب ما لا يحصى من براءات الاختراع اتاح لحاسوبه ان ينظم قصيدة شكسبيرية. ودانيال هيليس الذي صنع اضخم حاسوب في العالم، يصنع الآن ساعة لتعمل على مدى عشرة الاف سنة قادمة، اطلق عليها «هيليس ستونهيج الصغيرة» مشيراً الى الصخور العملاقة في بريطانيا ستونهيج. وفي النهاية هناك ناثان مايرفولد الذي يعمل على الاكتشاف العلمي الدقيق الشامل لحياة الديناصورات. وهو لا شك من اهم الاسماء في الثقافة الحديثة الاسس والتكوين.

منذ سبعينات القرن الماضي ظل مايرفولد يؤكد ان الحاسوب طور قدراته بـ(عامل الواحد في المليون). التطور الذي يتوقع له مايرفولد ان يستمر لعشرين سنة قادمة. ومن اجل توضيح ما يعنيه مايرفولد بعامل الواحد في المليون لا بد من تثبيت ان هذا العامل هو الفرق الرياضي بين السنة والثلاثين ثانية!!! بكلمة اخرى، يحتاج الحاسوب الآن ثلاثين ثانية لانجاز مهمة كان حاسوب من طراز اقدم يحتاج لسنة من اجل انجازها. في عام 2010 سيحتاج الحاسوب لثلاثين ثانية فقط من اجل انجاز نفس المهمة التي كان حاسوب اخر ينتمي الى السبعينات يحتاج لمليون سنة من اجل انجازها! كان مايرفولد مساعدا للفيزيائي المعروف ستيفن هوكنغ ولقد شهد ولادة كتاب هوكنغ (مختصر تاريخ الزمن) وعلم الفلك الجديد، لكنه انفصل عن سيده القديم ليصبح ثريا بفضل منصبه كباحث استراتيجي رئيس في شركة مايكروسوفت.

هؤلاء هم في الغالب من الشباب الذين حققوا ثروات خيالية بسبب عبقريتهم الحاسوبية. الذين زاروا باريس في الخمسينات من القرن الماضي، كانوا يذهبون لرؤية سارتر عاقداً واحدة من محاكماته الادبية أو مناقشاً البير كامو والآن تعقد المؤتمرات بين طليعة الثقافة الجديدة لمناقشة البرامج الجديدة وتنظيراتها الاخلاقية والمستقبلية. يدرج مارفن مينسكي في قائمة اهم علماء عصرنا الحالي. بنى مينسكي حاسوبا يخضع لعملية التطور مثلنا. ماكنته هذه كانت من الخطورة بحيث اضطرت الحكومة الامريكية الى منع بيع الشركة كلها الى مجموعة شركات يابانية لأسباب تتعلق بالأمن القومي! اين سينتهي المطاف بالمنظرين لعصر الحياة الاصطناعية..؟

وهل سنمنح نحن الأسئلة الجديدة أهميتها؟