«متحف الآثار الفلسطيني» حين صار اسمه «روكفلر»

خطة إسرائيلية عمرها مائة سنة لتغيير هوية مبنى

TT

يشبه المتحف الآن ثكنة العسكرية بسبب الحراسة المشددة التي تتولاها شركة خاصة.. ويمكن رؤية شبان من يهود الفلاشا قدموا من اثيوبيا يحملون بنادقهم متحفزين لأية حركة تحدث.

سعت الحركة الصهيونية عام 1906، من خلال الصندوق القومي اليهودي، للاستيلاء على مكان كان يعرف باسم «كرم الشيخ»، نسبة إلى الشيخ محمد الخليلي، الذي شغل منصب مفتي القدس في القرن السابع عشر. ففي هذا المكان كان الخليلي قد بنى عام 1711 مصيفا له، من طابقين، ويعد أحد المباني الأولى التي شيدت خارج أسوار بلدة القدس القديمة، يشرف لعلوه على الحرم القدسي الشريف، الذي يعتبر اليهود انه أقيم على أنقاض هيكل سليمان.

وكان هدف الحركة الصهيونية، إقامة معهد «بتسالئيل» للفنون، وحلم مؤسس هذا المعهد بوريس شاتس، بإقامته مع جامعة عبرية مكان كرم الشيخ، لكن الحلم الصهيوني تأجل.

مطلع القرن الماضي كانت فلسطين تمور بالصراع، لكنها كانت مسرحا، أيضا لنشاطات عديدة لها علاقة بالفن، لم تقتصر على الحركة الصهيونية، التي نجحت في تأسيس معهد للفنون، وإنما كانت البعثات الأثرية في فلسطين، تعمل بدأب، في ذلك الوقت. ومكن تأسيس الانتداب البريطاني لدائرة الآثار الفلسطينية، علماء كثيرين من التنقيب في فلسطين، خصوصا، مع ترؤس البروفسور جون جارستانغ لسلطة الآثار، وكان يتبنى مفاهيم أيديولوجية توراتية. شجع جارستانغ، المنقبين أصحاب الفكر الصهيوني على العمل، خصوصا، وانه لم يكن بعيدا عن هدف الانتداب البريطاني صاحب وعد بلفور، بتمكين اليهود من «وطن قومي» في فلسطين.

وجدت دائرة الآثار نفسها أمام المكتشفات العديدة، بحاجة إلى متحف، فاختارت كرم الشيخ، وحاولت شراءه عام 1919، ولكن العملية لم تتم لأسباب مالية. وبعد ستة أعوام، كان جيمس هنري برستد، عالم الآثار الأميركي، في زيارة إلى فلسطين فشعر بمعضلة الآثار، فتوجه إلى مواطنه الثري جون ديفيد روكفلر الابن، وأقنعه بالتبرع بمليوني دولار لبناء المتحف، سلمت لحكومة الانتداب. وتم شراء كرم الشيخ ومساحته 32 دونما من ورثة الشيخ الخليلي، لتبدأ الخطوة الأولى في إنشاء هذا الصرح الأثرى المهم.

تم تكليف المهندس اوستين سانت بارب هاريسون. واظهر الرجل اهتماما خاصا بالمتحف، ولا أدل على ذلك، من سفره إلى الخارج، جائلا في متاحف أوروبا للاطلاع، وعاد لفلسطين، ليدرس مباني القدس القديمة، وكان هدفه المزج بين عناصر معمارية من الشرق والغرب.

اقتبس هاريسون المخطط العام الذي كان متبعا في المباني العامة في أوروبا، المركبة من وحدات بناء مختلفة، أما الاختلافات في الارتفاعات بينها فاقتبست من تنظيم المباني في البلدة القديمة بالقدس، وصمم صالات كقاعات الكنائس ذات الشبابيك العالية التي تسمح للضوء بالمرور عبرها، أما سقوف الصالات فصممت بروح عصر النهضة الأوروبية، واستوحى قاعة المكتبة من بنايات ترجع إلى العصور الوسطى.

ومن الحضارة الشرقية والمحلية استقى هاريسون تقاليد تستيت الحجارة، والزخارف الهندسية التي تزين برج المتحف، وأشكال المداخل والشبابيك، والقبب والأقواس، والبلاط الأرمني وصناعة الأخشاب.

وتولى الفنان البريطاني إريك غيل، نحت الرسومات على جدران المتحف، وأبرزها الرسومات العشرة التي نحتها في الساحة الداخلية، وتصف الحضارات التي تعاقبت على فلسطين مثل البيزنطية والكنعانية والإسلامية. أما النحت الأبرز فوق المدخل الرئيسي، فهو يصف اللقاء المفترض بين قارتي آسيا وأفريقيا.

في 19 يونيو(حزيران) 1930 وضع حجر الأساس لـ«متحف الآثار الفلسطيني»، وهو الاسم الرسمي الذي أطلق عليه، لكن عملية البناء تأجلت ثلاث سنوات بسبب العثور على مقابر قديمة في المكان وإجراء حفريات.

سنة 1935 انتهت عملية البناء، وافتتح المتحف أبوابه للجمهور بتأجيل ثلاث سنوات. وحين وقع زلزال 1948 وأصبحت القدس الشرقية، ضمن نفوذ المملكة الأردنية الهاشمية، بقي المتحف الفلسطيني تابعا للإدارة البريطانية، حتى عام 1966، عندما أبدى العاهل الأردني الراحل الحسين بن طلال في خطاب العرش أمام مجلس الأعيان فخره بتعريب المتحف.

وفي حزيران (يونيو) 1967، اندلعت حول المتحف أعنف المعارك، وسالت دماء كثيفة، وتحقق حلم إسرائيل أخيراً بالسيطرة عليه، وأصبح اسم المتحف الفلسطيني، بعد أن غيره المحتلون «متحف روكفلر». وبدأت عمليات نقل حثيثة، شملت المحتويات النفيسة، إلى متاحف إسرائيلية. والواقع أن عمليات النهب لم تنته حتى الآن، وان كانت تتم ببطئ.

يشبه المتحف الآن، ثكنة عسكرية، بسبب الحراسة المشددة التي تتولاها شركة خاصة، ويمكن رؤية شبان من يهود الفلاشا قدموا من اثيوبيا، يحملون بنادقهم متحفزين لأي حركة تحدث، ويسمحون لأي سائح أو إسرائيلي، بالدخول إلى المتحف، في ما يمنع دخول اي فلسطيني ويعامل كمشتبه فيه.

وسمح لنا بالدخول، بعد تفتيش وتدقيق، واحتجاز طويل في غرفة الحراس تحت التهديد والاستفزاز، تخلله استجواب وتحقيق، حول الهدف من الزيارة.

وفي داخل المتحف، الذي يضم نفائس الآثار التي تعود للحضارات التي تعاقبت على فلسطين، فان الوجود الفلسطيني لا يلحظ إلا من خلال بضعة شبان يعملون في مجال النظافة، والنحت القديم الذي يشير إلى اسم المتحف قبل أن يصبح «متحف روكفلر».

ورغم الفخر الذي تبديه إسرائيل بسيطرتها على المتحف، كإحدى الجواهر التي تمتلكها، إلا انه لا يمكن إغفال، التعامل الانتقائي مع المعروضات، ففي حين توجد عناية بقطع فسيفسائية عثر عليها في كنس يهودية تعود للفترة الإسلامية، تقدم بشروحات، أيديولوجية اكثر منها أثرية، فان آثارا لا تقدر بثمن، تعود للفترات الفرعونية، والرومانية والإسلامية، تركت في ساحة مفتوحة بين قاعات العرض، عرضة للأمطار وتقلبات الطقس، ومن بينها توابيت حجرية ضخمة عليها رسوم تمثل ملاحم أدبية، ونصب حربية تذكارية رومانية وفرعونية نادرة.

ويمكن الوقوف على الإهمال المتعمد، من خلال، حديقة المتحف الخلفية، التي رمي فيها العديد من الآثار، وهي محطمة، تنتظر عودتها لأصحابها الأصليين لتنفث فيها «روح الزمان والمكان»، وهي الجملة التي تستخدمها إسرائيل للترويج للمتحف الذي أفرغته من أهم محتوياته.