رحلة مع التاريخ الاجتماعي لمدينة يافا

من خلال سير ست عائلات مسلمة ومسيحية ويهودية

TT

في هذا الكتاب، يتناول المؤلف، وهو مراسل صحيفة «التايمز» البريطانية، ملامح التاريخ الاجتماعي ليافا، المدينة ـ الميناء التي كانت على الأقل حتى عام 1936 العاصمة الاقتصادية لفلسطين، وإحدى حواضر التجارة والثقافة في الشرق الأدنى، وذلك عبر سير حياة عائلات عربية (مسلمة ومسيحية) وعائلات يهودية.

دراسات التاريخ الاجتماعي هي شاهد الدفاع الأقوى والأفعل على الظلم الذي لحق بالشعب الفلسطيني. فهذه الدراسات تكشف أساسا، وبأوضح صورة ممكنة، كذب مقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وتؤكد وجود شعب فوق أرض فلسطين ما قبل 1948 أسقط من فواتير السياسة مع أن وعد بلفور أشار إليه لفظا إذ ورد فيه حرفيا:

«إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بإيجابية إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي، وستعمل ما بوسعها لتسهيل تحقيق هذا الأمر، مع الإدراك الواضح لضرورة تحاشي أي شيء يمكن أن يؤثر سلبا على الحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية الموجودة في أرض فلسطين، وحقوق اليهود وأوضاعهم السياسية في أي دولة أخرى».

وفي المقابل، ربما بسبب الظلم الفادح الذي لحق بالفلسطينيين الذين اقتلعوا من أرضهم، ينسى العرب أو يتناسون أحيانا أن ثمة وجودا يهوديا ـ بصرف النظر عن حجمه ـ استمر في أنحاء مختلفة في فلسطين على مرّ القرون، كما أنهم لا يقدّرون تماماً أهمية «الحلم التوراتي» و«أرض الميعاد» عند المتدينين المحافظين من اليهود، ويجهلون جوانب مهمة جداً من التاريخ الذي يعتبره اليهود تاريخهم الديني والاجتماعي والسياسي الصحيح.

آدم ليبور، الكاتب والصحافي (مراسل صحيفة «التايمز» البريطانية في وسط أوروبا، مقره في بودابست)، كاتب ملتزم شعر بحكم خلفيته الدينية والثقافية بانجذاب كبير إلى شؤون الشرق الأوسط، فدرسها في الجامعة، وكوّن لنفسه ثقافة متميزة عن اليهودية والإسلام أتاحت له تأليف عدة كتب، منها كتاب عن الإسلام بعنوان «قلب يتجه نحو الشرق: بين المسلمين في أوروبا وأميركا»، يناقش فيه أوضاع المسلمين ومنظورهم الفكري في بريطانيا، كما ألف غير كتاب عن الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر.

يافا ... مدينة البرتقال

كتاب ليبور الأحدث يحمل عنوان «مدينة البرتقال: عرب ويهود في يافا»، وفيه يتناول المؤلف ملامح التاريخ الاجتماعي للمدينة ـ الميناء التي كانت على الأقل حتى عام 1936 العاصمة الاقتصادية لفلسطين وإحدى حواضر التجارة والثقافة في الشرق الأدنى، وذلك عبر سير حياة عائلات عربية (مسلمة ومسيحية) وعائلات يهودية (من الشرقيين السفاراديم والغربيين الأشكناز). والكتاب يقع في 346 صفحة من القطع المتوسط، وتزينه صور من أرشيف العائلات التي يروي ذكرياتها.

الحياد والموضوعية في الموضوع الفلسطيني الإسرائيلي تحديان يكونان، بصفة عامة، مسألتين صعبين على الكتّاب المنجذبين عاطفياً أو دينياً أو ثقافياً إلى المنطقة. ولكن ليبور نجح إلى حد بعيد في أن يحجز لنفسه منصة عالية على مسافة واحدة من النظرة الذاتية الإنسانية للعائلات الست التي اختار سيَرها موضوعاً لكتابه.

لقد ترك المؤلف هذه السير تنطق وتسرد وتعرّف وتذكّر وترسم بنفسها شريط ذكرياتها ومفاهيمها وتجربة ما تعنيه لها «يافيتها». واستنهض التاريخ النائم من منظور أبطاله وضحاياه، ولحظ في كل من العائلات المتشدد والمتسامح، المحدود الثقافة والمثقف، والفقير والغني.

كذلك لاحظ المؤلف، وهو الراصد بعناية حجم معاناة كل من الجانبين، كيف فات كل جانب بالرغم من آلامه ـ بل ربما بسبب استغراقه الكامل في آلامه ـ التنبه لآلام الجانب الآخر، مع أن ما حصل في يافا منذ 1921 وانتهاء بعام 1948 جسّد صيغة الغالب والمغلوب، ولئن جاء مؤشراً لنهاية معاناة اليهودي وبداية معاناة الفلسطيني.

من العائلات اليافية التي تناولها ليبور، عائلة حمامي المسلمة التي ينتمي إليها الناشط والدبلوماسي الفلسطيني الراحل سعيد حمامي، وعائلتا اندراوس وجديّ المسيحيتان المرموقتان،

أما عن العائلات اليهودية، فقد اختار عائلة شلوش الشرقية، وعائلتي مايسلر وأهاروني الأوروبيتين. وبأسلوب سلس وسوق رصين وموضوعي لتسلسل الأحداث المأساوية في فلسطين، ينقل ليبور بعدسة المصور الماهر ووعي الصحافي المثقف المتمكن من التعقيدات التاريخية للمأساة، الروايات الأحادية الجانب، فتتكامل وترسم صورة لا يعوزها الوضوح، وتقدم معلومات طريفة ومفيدة تيّسرت للكاتب عبر الخوض ليس فقط في تفاصيل سير أبطال الكتاب بل أرشيفات صورهم الخاصة.

إنه كتاب ممتع ومفيد لكل من يطلع على صفحات مجهولة من حياة مجتمع يافا العربية، وبالذات أوضاع يهودها خلال الحقبة السابقة لتأسيس إسرائيل وخلفية إنشاء تل أبيب الضاحية اليهودية التي التهمت يافا العربية وجعلتها ضاحية صغيرة تابعة.