شكل بنائي مغاير وكتابة روائية تسترسل في سرد حكايتها

مكونات النص الفنية والثقافية في «القارورة» ليوسف المحيميد

TT

تنتمي رواية «القارورة» للكاتب والروائي السعودي يوسف المحيميد، إلى النصوص التي يتحول بناؤها إلى مظهر من مظاهر الوعي المحتمل للحكاية، وإلى صيغة ثقافية مغايرة للواقع.

إنها نص روائي ينتج معرفة فنية وثقافية، حول اتجاهات الإبداعية الروائية السعودية التي باتت تفرض ضرورة انخراط أسئلة النقد في مساحاتها الرمزية، نظرا لما تعبّر عنه من انفتاح المتخيل على إمكانات من الوعي، تتجاوز بمرونة تقنية وجمالية أشكال الوعي السائدة في المجتمع السعودي.

وتحكي الرواية عن حربين تنشبان بالتوازي: حرب ضد مشاعر امرأة تعيش الحب بكل تفاصيله وأبعادها الذاتية، ثم تكتشف بعد ذلك خيانة الحبيب الذي تقرب منها لينتقم من أخيها. ثم الحرب ضد الكويت التي سترعب المكان والإنسان والمفاهيم.

تلتقي الحربان في زمن البداية والنهاية، وفي تفاصيل الأحداث المتداخلة، كما يلتقيان في معنى الخلط المرعب للمفاهيم والقيم والزمن. وعبر الحربين تتفجر حكايات تُخرجها الحرب من صمتها:

> ولم تمض سوى أيام حتى صارت الكويت الصغيرة المحافظة العراقية التاسعة عشرة، وأصبحت أنا المحافظة الثامنة في أملاك الدحال السرية، بعد ستة صغار وزوجة لم تكتشف إلا مع اسمه الحقيقي، الذي لم يكن علي الدحال» (ص 140).

بناء الحكاية

تقترح رواية «القارورة» شكلاً بنائياً مغايراً لاحتضان الحكاية، وهو شكل غير مُصرَّح به ظاهريا من إعلان مكشوف سرديا لنوعية التجارب، فهي لا تنتمي إلى النصوص التي تعتمد على سرد الحكاية أفقياً، واعتماد سارد واحد، يُخبر بالحكاية، ويدعها تُسرد وفق موقعه السردي. وليست من النوع الذي يكسر رتابة الأفقي ليدع الحكاية تتشظى عموديا، عبر تعدد السارد، وترك الفرصة للقارئ لكي يُعيد تجميع شتات الحكاية لإعلانها نظاما، وفق خلفية السرد التي انبنت عليه الرواية، إنما هي كتابة روائية تسترسل في سرد حكايتها بدون تشظ، غير أنها لا تخضع للرؤية السردية الواحدة، ولا يسرها سارد واحد ووحيد، إنما تعرف في تكوّنها حالة تناوب سردي.

وأهم ما يميّز كتابة هذه الرواية، إلى جانب البُعد المعرفي والاجتماعي والثقافي الذي تطرحه، هو منطق التحولات البنيوية التي يعرفها السرد داخل هذا النص من جهة، ثم إمكانات النص الثقافية التي تدفع بالتحليل إلى الخروج بالمحكي إلى مساحات السياقات الثقافية للمجتمع السعودي، وهذا ما يجعل القراءة تتحرك بين مكونات النص البنائية الفنية، وبين مكونات النص الثقافية التي تعزز بلحظة الانخراط في أسئلة واقع المجتمع السعودي. وهي حركية تفاعلية وعلائقية تنتج أشكالا من الرفض تبدأ من رفض الصور المألوفة الجاهزة التي يتربى عليها الفكر، وتوجه عن ثمة السلوك والممارسة الحياتية، (صور المرأة مثلا)، إلى اقتراح الصور البديلة التي تعلي من شأن الفرد في الحياة العامة والخاصة باعتباره رغبة وإرادة وفعلا حرا.

لا تعرف القارورة الثبات في مكونات الحكي، ولا الرتابة، في عملية السرد، إنما استرسال الحكاية وفق طبيعة الوعي الذي يشكل ـ بدوره ـ زمن الكتابة هو الذي يصنع هذه التحولات. فالشخصية المحورية التي انبنى عليها الحكي «منيرة» تبدأ شخصية تتلقى الحكاية من الجدة، والأوامر من الأخ الأكبر والأب، والصور الجاهزة حول المرأة، منطق الأعراف، ثم تنتقل بفعل امتلاك القارورة بحكاياتها الصامتة إلى ساردة تحكي عن قصتها التي فاضت بها القارورة، وتكتب ألمها عندما راهنت على مشاعرها، فإذا بكرامتها تداس خيانة، وتوثق لخيانة حبيب تجعل من الكشف عنها لحظة الانتصار على لغة الأوامر والقانون في بلدها.

ينتصر السرد بهذا الشكل للشخصية منيرة، عندما ينتقل بها من موقع المفعول به، أو الموضوع الذي يتم التداول حول شأنه في نظام العشيرة والأسرة والمجتمع. ومن مجرد متلقية لحكايات الآخرين إلى صاحبة موقع تدبر شأن حكايتها بفعلها، وتكتب سرها الذي امتلأت به القارورة، وتصبح فاعلة في حكايتها عندما تمنح لها نظاما وترتيبا، أي تجعل منها زمنا لانبثاق وعي محتمل. فعلت عملية الانتقال هذه، في مجرى الحكاية وجعلتها تُنتج وعيا استثنائيا. ولعل الذي ساهم في الانتقال من الصمت والشفهي إلى الكتابة والتوثيق كون «منيرة» تدخل مجال الحكي باعتبارها ممارسة لفعل الكتابة الصحافية. فقد كانت تكتب عمودا صحافيا «ورد في آنية» إلى جانب امتلائها حكايا الآخرين لكونها تشتغل بدار الفتيات، وتُلزمها وظيفتها الإصغاء إلى حكايات الآخرين أو بالأحرى حكايات الأخريات. ولهذا، فالموقع الذي تشهد تُكَوُّنه داخل المجال السردي، لم يكن مفتعلا أو جاهزا، وإنما كان مُدَعَّماً بمكونات تخص طبيعة شخصية «منيرة».

تتشكل حكاية «القارورة» سرديا بين ضميرين رئيسيين: من جهة ضمير المتكلم المعلن صراحة، وعبر مؤشرات ملموسة على امتلاك «منيرة» أحقية الحكي عن حكايتها وبضميرها الصريح، الذي يسرد حكاية خيانة الحبيب وبالموازاة حكاية الحرب على الكويت، ويتخلل هذا التوازي الحكي عن الأعراف والتقاليد. ومن جهة ثانية، ضمير الغائب الذي يسرد «القارورة» انطلاقا من موقعه فيقدم معرفة عن العام، ويلتبس أحيانا مع أصوات اجتماعية قد تكون صوت المجتمع والأعراف وكل ما يشكل السياق العام.

هكذا، تعيش القارورة حالة التكون الروائي وهي تخرج تدريجيا من ظلام القارورة حكايات مشتتة إلى بياض الكتابة. تخرج من حالة الشفهي إلى المكتوب، ومن المكتوب إلى المسرود لتأخذ شكلها الطبيعي ضمن نظرية جنس الرواية، حيث يصبح لها منطق يؤثث أفعالها وعلاقات شخصياتها، ويصبح جوهر وجودها ليس في اعتبارها حكاية من الحكايات، إنما كونها صارت شكلا من الوعي الذي قد يربك وعيا قائماً، ويخلخل رتابته ويخدش منطقه.

غير أن هذا الوضع التناوبي بين الضميرين المتكلم والغائب، لا يتم بشكل فجائي أو اقتحامي، كما لا يحدث التغيير على مستوى أسلوب الكتابة. لا نشعر ـ كقراء ـ بلعبة الضمائر المكشوفة في صناعة النص، إنما نشعر بحالة سردية منسجمة بنائيا وأسلوبيا تعمّق الرؤية على ذات الساردة/ منيرة، عبر رؤية المتكلم. وتضيء هذه الذات الرؤية الجماعية عبر الغائب باعتباره ضميرا عارفا بكل شيء وموجودا في كل مكان، بل الذي يحدث هو انتصار السرد لضمير المتكلم، عندما يجعله يفتت سلطة الغائب المعرفية. ويتم ذلك بمرونة فنية لا تحدث اصطداما ضمائريا، إنما يمكن الحديث في هذا المستوى عن مظهر من مظاهر تكون الحوارية.

وهي حوارية بين مستويات سردية: مستوى السارد الغائب الذي يتأكد مع كل تدرج سردي أنه يدخل برغبة مراقبة الساردة بضمير المتكلم، وتلقين معرفة حول وضع معين يخص بلد بعينه، وقضايا محددة وفق أعراف وشروط سياقية، لكن ملفوظات هذا السارد تخرج من سياقها الاجتماعي ـ المادي، وتدخل السياق الروائي ـ التخييلي، لتجد نفسها محكومة بمنطق مختلف يُربك سلطتها ويجعلها تدخل في شرط استثنائي، وتجاورها في هذا الشرط ملفوظات أخرى يسمح لها السياق السردي بالتعبير المفتوح على قضايا مسكوت عنها.

يؤثر هذا الوضع في ملفوظات السارد الغائب، ويخلخل موقعه، ويدفعه باتجاه طرح السؤال حول راهنية موقعه. يدعم هذه الخلخلة حضور لغات مرافقة مثل لغة المنشور (ص 82)، الذي تم توزيعه في مظاهرة قيادة النساء للسيارات، ونلاحظ أن الحوارية قد تعمّقت في مستوى الحكي عن حدث قيادة النساء للسيارات، حيث تداخلت لغات المجتمع الرافض بلغات المدافعات عن فكرة الثورة على منع النساء من قيادة السيارات، بلغة الساردة منيرة التي كانت تقوم بوظيفة تهيئة مناخ حواري عندما تطرح أسئلة هي أسئلة المجتمع السعودي المحافظ.

يتم خدش ملفوظات الغائب، بل بترها عبر جرأة ضمير المتكلم، ويتم ذلك من طريقة سرد منيرة لحكايات الآخرين، مثل تسرد حكاية ميثاء (ص 108)، التي خرجت عن سلطة وصايا ضمير الغائب. ومن شكل الحكي يتضح أن منيرة متعاطفة مع ميثاء، لأن هذه الأخيرة وإن قامت بجريمة قتل زوجها، فإن منيرة تجد لها العُذر في ذلك. ونفس الشيء حدث مع باقي الحكايات التي استمعت إليها منيرة في دار الفتيات حيث تعمل. ولعل طبيعة شخصية منيرة التي تملك قدرة تطويع الحكاية سرديا قد أثرت على وضعية السارد الغائب الذي يتعامل معها مرة بشكل رسمي، يكاد يتميز بالنقل الموضوعي للمعرفة يقول ضمير الغائب: «بينما الأخصائية الاجتماعية منيرة الساهي تحاول..» (ص 122)، وعندما يجدها وقد توغلت في تبرير ما يحدث في مجتمعها من جرائم ترتكبها النساء ضد أزواجهن، فإنه يتدخل ليحاورها وينتقدها، لكن من دون الدخول في اصطدام أو إقصاء لوجهة نظرها مثل: «ألم يكن العرب قديما يتراجعون عن سفر أو مهمة أو ما شابه، وهم يستدلون على ذلك بالعلامات؟ ألم يكن أهل الصحراء يتلقفون العلامات كي تهديهم في حياتهم وطرقهم المتشعبة؟ كيف لم تنتبه منيرة الساهي إلى علامة كتلك، وهي تشارك في تحقيق مع فتاة مراهقة ومستغلة؟ لتتحول هي بدورها إلى امرأة تقع في حبائل ابن الدّحال، الذي يفوق هذا المتسرع خبرة ودهاء وتكتيكا» (ص 121).

والملاحظ أن ضمير الغائب في ما هو يحاور تبريرات وتحريات الاختصاصية الاجتماعية منيرة الساهي، لا يوجه إليها خطابه بشكل مباشر، إنما يتعامل معها باعتبارها ضميرا غائبا. ونفس الشيء يحدث مع منيرة، ولهذا فإن الحوارية تحدث بين الملفوظات في المستوى السردي.

حكاية «القارورة» تعلن عن واقع يجعل من التفكير حول المرأة جامدا ولا تاريخيا، ما دامت إمكانات التعبير مقيدة التداول، ولا يزال يتم ترديد نفس الوصايا التي تجاوزها إحساس المرأة وثقافتها، بل أيضا التحولات الداخلية والعامة، ويظهر ذلك من الشخصيات النصية مثل أخ «منيرة» محمد، الذي اعتبر كتابة منيرة، للزاوية الصحافية ورد في آنية سببا في جعلها تخرج عن منطق الأعراف، فإن الخطاب ـ الذي نعني به طريقة سرد الحكاية ـ قد خرق منطق هذه الحكاية، وكسر الصوت الواحد، المدبر لشأن المعرفة العامة والخاصة، واتضح ذلك في وضعية السرد الروائي.

عبر هذا التحول في موضع المرأة سرديا، تكون القارورة قد ألهمت القراءة بإمكانية وعي ناضج، ينتفض عبر التخييل ليحاور وبمرونة واقع الوعي القائم، الذي ما زال يحاصر المرأة ضمن الموضوع المفعول به. و«القارورة» بهذه الاستراتيجية السردية قد تربك بعض التوجهات النقدية التي تشتغل في إطار كتابة المرأة، معتبرة أن المرأة/ الكاتبة وحدها مؤهلة أكثر لمقاومة الصمت عن خصوصية وضعها، حين تتمثل اللحظة النسائية وترقى بها إبداعيا.

* ناقدة وروائية من المغرب