إنسان افتراضي يعود من العوالم السفلية في معرض مغربي

الدار البيضاء: جلال الحكماوي

TT

ولجت التكنولوجيا الرقمية مجالات الفنون البصرية، في المغرب خلال السنوات الأخيرة، مما أسهم في خلق لغات تشكيلية جديدة أعطت بعداً تفاعلياً جديداً لعملية التلقي. علاوة على أن التكنولوجيا الرقمية أنشأت شعرية مغايرة للزمان والمكان، بفتحها عوالم افتراضية تنسف ثقل المادة التي تغمر الفضاءات المألوفة.

وهكذا ينظم فضاء «أكتيا» التابع للتجاري وفابنك، ولغاية 20 أبريل (نيسان)، معرضا لتجهيزات INSTALLATIONS الفيديو، لكل من الفنان عبد الغني بيبط، والمجموعة الإيطالية ستوديو آزورو، والنحات الألماني بيتر ويلز، بتعاون مع الراقص الأميركي وليام فوريست.

على يد الفنان المغربي عبد الغني بيبط، نجد انه إذا نمطت التكنولوجيا التقليدية الجسد البشري، فإن اختها الافتراضية، تفكك تصورنا له، وتعيد ترويض غرابته. وبيبط، فنان فيديو ومصور فوتوغرافي، من مواليد 1967 بمدينة بني ملال. والتجهيز الذي شارك به في المعرض، يحمل عنوان «ما وراء الجلد». وهو محاولة إبداعية لاستعادة ألفة الجسد الطبي، الذي ينفلت بهذه التقنية من سلطة الواقع ويكشف عن المسكوت عنه والخفي فيه، مانحا للصورة «الراديوغرافية» قوة التأويل الذي يقرأ التقطيعات البشرية قراءة تركيبية تنفخ الحياة في: عظام، مسامير وأسلاك لجبر العظام المكسورة، ضلوع وجماجم. إن لحمة هذا التجهيز هي الكولاج/ التركيب، لإنسان افتراضي يعود من عتمات العوالم السفلية إلى عنفوان الحياة تحت نظر المشاهد الفاعل. ويأخذ هذا التجهيز شكل صور أشعة إكس، لأعضاء متفرقة من الجسد مثبتة على أرض المعرض ومعلقة على الجدران، بطريقة ترغم المشاهد على المشي/ النظر، في مختلف الاتجاهات، كأن العدم أطبق عليه فجأة فذهل، إلى أن تستدعيه ترددات صوتية تضعه فجأة أمام صندوق خشبي كبير يرمز إلى تابوت، يتمدد داخله مانيكان مقطوع الأطراف والرأس. وعوض هذا الأخير نجد شاشة تبث صورا مركبة من بقايا كفن وأحلام وكوابيس واستيهامات جسد حي ـ ميت يمثله هذا الجسد الممدد. وقدم ستوديو أزورو (مجموعة إيطالية تتكون من ثلاثة فنانين) تجهيزاً بعنوان «طافولي» يتكون من ست طاولات ذات جاذبية سحرية، إذ بمجرد ما تلمسها تبدأ في التموج والحركة وتظهر لك امرأة بدينة بلباس نوم تطفو على سطح الماء، ثم تعود لتختفي فيه؛ ثم تنتقل إلى الطاولة الثانية، تلمسها فتحدث أصواتا غريبة ويتحرك إنسان تحت غطاء أبيض كشبح، أما الطاولة الثالثة فكلما لمستها ظهرت لك امرأة نائمة وغيرت وضعها مع كل لمسة وهكذا دواليك مع الطاولات الأخرى. وتعيد هذه الصور الست الاعتبار لحاسة اللمس، مانحة إياها بعدا روحيا قويا يقطع مع البلادة التي تسيطر على حواس الإنسان في الحياة اليومية. ورغم أن اللمس حاسة فقيرة، لأنها تظل تابعة للمادة الزائلة والآخر، على الدوام، فإنها تشغل دورا شبيها بالذاكرة التي تغربل المعلومات الحميمة، الوجودية والفيزيائية، انطلاقا من كل جغرافية البشرة اللانهائية. وهي بذلك مقاربة لا تكتفي بتغيير المفاهيم الفنية وحدها، بل تؤثر أيضا في التمثلات الأنثربولوجية التي تشرط العقليات والسلوكيات النمطية السائدة في كل المجتمعات.

أما التجهيز الثالث، فهو «رسم جوي» قام به مخرج الفيديو ـ النحات بيتر ويلز، مواليد ألمانيا 1972، ويبحث في النحت من خلال الفيديو، موظفا لهذا الغرض الجسد الإنساني في مختلف تمظهراته. انه تجهيز بصري يتشكل من خمس شاشات للعرض، تعتمد على نص لبيكيت، يقوم الراقص الأميركي المعروف وليام فوريست بكتابته جسديا. وهذه الرقصات تم تصويرها بكاميرا فيديو من مختلف الزوايا، أمام، خلف، فوق وتحت، مما جعلها تبدو كأنها معلقة بدقة على الجسد الراقص، لا سيما بعد إلحاق الرسم الناتج عن حركات يد النحات الذي شكل خلفية شريط الفيديو، على الورقة. هذا المعرض الخارج عن القواعد التقليدية، يعتبر لبنة رئيسة لتربية أجيال جديدة من متذوقي الفنون التجريبية الحديثة المنبثقة من تطور التكنولوجيا والعلوم والفنون الرقمية، التي ما فتئت تعبر المجتمعات العربية كخيال الطيف من دون أن تؤثر فيها، لأنها تبقى سجينة نخبة مفصولة عن عنفوان واقع محلي متعدد وعولمة متوحشة تتوغل كل ثانية في متخيل الشعوب الفتية، من خلال وسائل إعلامها المرئية والمكتوبة. كما أن عدم التواصل مع جديد قرية العالم، يضع مجتمعاتنا في دوامة هوية ممزقة لن نتخلص من تبعاتها إلا بتطوير هوية فنية ديناميكية تلعب فيها حفريات الذات والحوار الحقيقي مع الثقافات الفنية الأخرى، دورا حاسما.