وثائق تثبت أن ميخائيل نعيمة زوّر التاريخ وشطب الريحاني من «الرابطة القلمية»

تسعون الجمعية الأدبية الأشهر في العالم العربي

TT

في مثل هذا الشهر، ابريل (نيسان)، تأسست في نيويورك الجمعية الادبية الاشهر في العالم العربي، والمعروفة باسم «الرابطة القلمية». ولكن، في اي عام تمّ التأسيس؟ ومن كتب بيانها الاول؟ وهل غاب امين الريحاني عن الورشة التأسيسية، وتاليا عن العضوية؟ وما سبب غيابه او تغييبه؟ كلها أسئلة ما تزال الإجابات عليها غير وافية، ويشوبها الكثير من اللبس، فمن المسؤول؟ وكيف لعب ميخائيل نعيمة دوراً تضليلياً، يخلو من براءة.

لم يهتم الباحثون بأية جمعية ادبية عربية اكثر من اهتمامهم بـ«الرابطة القلمية». ويعود ذلك الى عاملين: اولهما ان هذه الجمعية احدثت تغييرا في الكتابة الادبية على صعيدي الشكل والمضمون، والثاني، ان بعض مؤسسيها حازوا شهرة عالمية، وخاصة عميدها جبران خليل جبران.

كان ميخائيل نعيمة اول واهم مؤرخي الرابطة. فقد خصص لها مقالا من ست صفحات في كتابه «جبران ـ حياته، موته، ادبه، فنه»، وفي كتابه «سبعون» كرس اثنتي عشرة صفحة للرابطة وفرسانها. ذكر نعيمة في كتابه عن جبران، ان الرابطة تأسست بعد جلستين، عُقدت اولاهما في منزل عبد المسيح حداد، مالك ورئيس تحرير جريدة «السائح» النيويوركية العربية، بتاريخ 20 أبريل (نيسان) 1920. وورد في محضر هذه الجلسة التي دونها نعيمة بيده على حد تأكيده، ان «احدهم رأى ان تكون لادباء المهجر رابطة تضم قواهم وتوحد مسعاهم في سبيل اللغة العربية وآدابها. فوافقت الفكرة استحسان كل الادباء الحاضرين وهم: جبران، نسيب عريضة، وليم كاتسفليس، رشيد ايوب، عبد المسيح حداد، ندرة حداد، ميخائيل نعيمة».

وفي 28 منه، عقدت الجلسة الثانية والحاسمة في منزل جبران بحضور الادباء، الذين حضروا الجلسة التمهيدية، اضافة الى الاديب الفكه الياس عطا الله. تمت الموافقة على دستور الجمعية، وانتخب المؤسسون جبران عميدا للرابطة، وميخائيل نعيمة مستشارا، ووليم كاتسفليس خازنا، وكلفوا نعيمة مهمة تنظيم قانونها. وهنا ايضا، اكد نعيمة ان ما اورده من معلومات، كان نقلا عما دونه خلال تلك الجلسة التاريخية.

وفي كتابه «سبعون» كرر نعيمة ما ذكره في كتابه «جبران»، واضاف عليه: «اما امين الريحاني، فلم نضمه الى الرابطة لسببين: اولهما انه كان متغيبا عن نيويورك عند تأسيسها. وثانيهما، وهو الاهم، انه كان على خلاف بلغ حدّ الجفاء مع جبران».

نستخلص مما كتبه نعيمة، ان الرابطة القلمية تأسست عام 1920، وان الريحاني لم يكن من مؤسسيها، ولم ينتم اليها بعد التأسيس، بسبب خلافه الحاد مع عميدها. ولما كان نعيمة من اركان الرابطة، ومن ابرز ادباء الوطن والمهجر، فقد اعتمد معظم المؤرخين والصحافيين ما اورده، من غير تدقيق كبير، ومنهم مؤلفو «المنجد» وكذلك النحات المقيم في بوسطن خليل جبران (وهو ابن أخ الأديب جبران) وزوجته جين، في كتابهما «خليل جبران: حياته وعالمه». وتبنى بعض الباحثين معلومة خلاف الريحاني مع جبران، ووافقوا نعيمة على انه ـ الخلاف ـ السبب الرئيسي في عدم انتساب فيلسوف الفريكة الى الرابطة.

كنتُ مقتنعا بكل ما كتبه نعيمة حول الرابطة، حين توجهت من لندن الى مكتبة الكونغرس في واشنطن دي سي، لتقميش مقالات جبران المنشورة في الدوريات العربية ـ النيويوركية، وفي طليعتها جريدة الرابطة الرسمية «السائح». وفوجئت عندما واجهتني عشرات المقالات المتوجة بأسماء ذيلت بعبارة «عضو الرابطة القلمية»، في الدوريات الثلاث، مجلة «الفنون» وجريدتي «مرآة الغرب» و«السائح» المنشورة كلها في عام 1916، أي قبل تأسيس الرابطة ـ بحسب زعم نعيمة ـ بأربع سنوات.

ولعجب قارئ نعيمة ومتتبع أخبار الرابطة في كتبه، يجد مقالة لأمين الريحاني بعنوان «بلادي» منشورة في «السائح» 25 ايار عام 1916، تقول إنه عضو في الرابطة القلمية.

وتصدرت صورة الياس عطا الله الصفحة الاولى من «السائح» الصادرة في 14 ايار 1916، وكتبت تحتها العبارة التالية: «يحرر هذا العدد الياس عطا الله عضو في الرابطة القلمية». والجدير ذكره ان من مبتكرات صاحب «السائح» الطريفة، ان يتولى احد اعضاء الرابطة تحرير عدد بكامله. وكان جبران بين الذين اشتركوا في تحرير عدد «السائح» الصادر في 20 ابريل 1916.

وليس ذلك كل شيء. فقد نشرت «السائح» لامين مشرق، مقالة طويلة بعنوان «الرابطة القلمية»، احتلت صفحة كاملة من العدد الصادر في 29 يونيو (حزيران) 1916، وطرح في مستهلها الاسئلة التالية: «ما هي الرابطة القلمية؟ وما هي غايتها؟ وكم عمرها؟ ومن هم اعضاؤها؟ ومن هو رئيسها؟ ولماذا هي مختبئة الآن؟ وما هي سياستها؟». ويجيب مشرق: «انها سؤالات تنصبّ كل يوم، بل كل ساعة، على رؤوس اعضاء الرابطة القلمية». مما يعني ان الرابطة كانت قد عرفت في تلك السنة. ويضيف مشرق: «ماذا اقول لكم؟ جمعية؟ كلا. ناد؟ كلا. ليطمئن بال الجمعيات العزيزة! فليس من مزاحم جديد». ونوه مشرق باحد مبادئ الجمعية الادبية، الذي ينص على الآتي: «انما تُدخل (الرابطة) في عضويتها من تستحسنهم بطلب منها لا منهم. نحن نعتقد انه يوجد بين الشعب من هم اقدر منا وارفع منزلة في عالم الادب. وسيكون لنا الفخر بدعوتهم في المستقبل لمشاركتنا». وانتقل مشرق الى اللغة، ليؤكد انها «ليست إلها ولا شيطانا ولا جنا. هي لغة كسائر اللغات. تنحطّ الى ادنى الدركات. وتسمو الى اعلى الدرجات. وتموت بموت شعبها. وتحيا بحياة المتكلمين بها». لذلك، فإن اعضاء الرابطة «شرعوا بتهيئة اللغة العربية لطورها الجديد الاتي». وهذا الطور، لا يقتصر على الشكل، وانما يشمل «المحافظة على الجرثومة الباقية من آداب اللغة وتغذيتها بالجديد المفيد، وهذا يستدعي من الرابطة ان تنتخب من حقل هذا الشعب النباتات والشجيرات المستعدة للنمو والصالحة للحياة وتغذيها بضمها اليها».

ولننتقل الى بيان الرابطة رقم 2 الذي نشرته «السائح» في 17 يونيو 1920، الذي يؤكد نعيمة في كتابيه «جبران» و«سبعون» انه بقلمه، ويزعم انه البيان التأسيسي. فنجد ان نعيمة يعد بجمعية متميزة وبنتاج ادبي جديد، وبغيرها من الوعود التي سبق واطلقها مشرق قبل خمس سنوات. قال نعيمة ان «الرابطة القلمية جمعية ولكنها لا كالجمعيات». وأضاف انها «جمعية لا تطلبها الناس، ولكنها تنتدبهم اليها». وأكد أن الرابطة «عامدة الى احياء الادب واللغة معا». ذلك ان «الروح التي تحاول بكل قواها حصر الآداب واللغة العربية ضمن دائرة تقليد القدماء في المعنى والمبنى، فهي، في عرفنا، سوس ينخر جسم آدابنا ولغتنا». واستدرك ليقول «اننا اذا عملنا على تنشيط الروح الادبية الجديدة، فلا نقصد بذلك قطع كل علاقة مع الاقدمين». ونادى نعيمة بتنقية اللغة، وقال «اللغة بنظرنا كيان حي ينمو ويتطور كما تنمو وتتطور الكائنات الحية في العالم». وعاد نعيمة الى المضمون ليؤكد ان «من حاجات يومنا ان نعيد للادب سلطانه بجعله ترجمان الامة الناطق بعواطفها وافكارها ومنارتها التي تضيء لها السبيل وتساعدها على السير من محجة الى محجة في منعرجات التقدم الروحي والاجتماعي». ووعد نعيمة بان الايام «ستبرهن على كفاءة الرابطة».

من كل ما سبق يجعلنا نكتشف، اولا: ان الرابطة القلمية لم تتأسس في عام 1920، بل في 1916. ولكن انشغال فرسانها بالعمل السياسي عبر «لجنة تحرير سورية وجبل لبنان»، ادى إلى تعليق نشاطها، حتى اذا انتهت الحرب وانتفى بنهايتها مبرر وجود الجمعية السياسية، استأنفت الرابطة نشاطها.

ثانيا: كان الريحاني من مؤسسي الرابطة، ولكنه غاب عند استئناف نشاطها عام 1920، لانه كان بصدد القيام بسلسلة من الرحلات، مقدمة لتأليف كتبه عن ملوك البلدان العربية. وهذا المشروع استغرق سنوات من جهوده.

ثالثا: لم يكن ميخائيل نعيمة من مؤسسي الرابطة في عام 1916، ولا من الذين انتسبوا اليها انذاك. مع ان بقية الاعضاء، بدءا من جبران، اشتركوا في تأسيسها عام 1916 واستأنفوا نشاطها في عام 1920. وغياب هذا الركن وحضور ركن آخر، امر مألوف في كل الجمعيات، خصوصا التي اضطرتها الظروف الى تجميد نشاطها فترة غير قصيرة.

رابعا: لعب امين مشرق الدور نفسه في مرحلة تأسيس الرابطة، الذي لعبه ميخائيل نعيمة في مرحلة استئناف نشاطها. فالاديبان كتبا تعريفا بالجمعية واهدافها. ثم ان تطابق المضمون، بعناوينه وخطوطه الرئيسية، يدعو الى الاستنتاج بان نعيمة اقتبس الكثير عن مشرق. وبالمقابل غاب توقيع نعيمة عن البيان الثاني، لان الاخير كان بمثابة دستور الرابطة وتضمن تحديدا رسميا لاهدافها.

خامسا: ليس صدفة ان تستأنف الرابطة نشاطها في شهر ابريل. فقد تأسست في الشهر نفسه قبل خمس سنوات. ذلك ان الجمعيات والدوريات، التي تضطرها الظروف الى التوقف، تستأنف نشاطها بتاريخ له دلالة. ولا يجوز اعتبار رابطة 1920 غير رابطة 1916، لمجرد ان سنوات خمسا تفصل بين الاثنين.

سادسا واخيرا: يتحمل نعيمة معظم الاخطاء الرئيسية المتعلقة بتاريخ ولادة الرابطة وظروف توقفها واستئناف نشاطها وتغييب دور الريحاني في ورشة تأسيسها، وتقزيم احجام معظم فرسانها. ولكن المؤرخين والباحثين والصحافيين يتحملون جزءا من المسؤولية، بسبب تبنيهم لمعلومات نعيمة من غير تمحيص. كذلك، لا يمكن تبرئة جبران وعبد المسيح حداد وسائر اعضاء الرابطة، من بعض الاخطاء المتعمدة. فقد كان عليهم التنويه بتاريخ التأسيس عند استئنافهم نشاط الرابطة، ولفت نظر نعيمة الى ذلك لحظة تكليفه بصياغة بيان 1920. كذلك، كان من واجبهم ـ وكانوا جميعا باستثناء جبران ـ ان يصححوا الاخطاء الواردة في المقال الخاص بالرابطة الذي احتضنه كتاب نعيمة عن جبران.