الأميركيون يحتفون بـ«الدادائية» ويسقطونها على حرب العراق

«واشنطن بوست» تدعو زوار المعرض للتمرد بلبس البيجامات والأحذية العسكرية

TT

واحد من أكبر وأهم المعارض التي تسترجع الحركة «الدادائية»، يقام حالياً في واشنطن. هذه الحركة التي خرجت من رحم الحرب وانفجرت بسببها، تبدو رغم مرور ثمانين سنة على ولادتها، وكأنها ما تزال طازجة. وهو ما يجعل الأميركيين يشعرون أن لا شيء تغير، وأن الكثير من المعروضات، الموجودة حالياً في «القاعة الوطنية للفن«، في واشنطن، تذكرهم بحرب العراق وبنزلاء سجن أبوغريب الذين شاهدوهم يسحلون ويعذبون على شاشاتهم.

تستقبل «القاعة الوطنية للفن« في واشنطن، حتى منتصف الشهر المقبل، اهم معرض عرفته الولايات المتحدة عن «الدادائية«، أو ما يمكن ان نسميه «فن الاحباط« الذي بدأ في اوروبا خلال الحرب العالمية الاولى (1914 ـ 1919).

كانت اوروبا قبل ذلك، تخوض حروب فرسان واديان، واصبحت من بداية الحرب العالمية الثانية، تخوض حروبا ميكانيكية ووطنية. لهذا شكلت الحرب الاولى مرحلة انتقالية بين الرومانسية والتكنولوجيا.

اعتقد الاوروبيون، عندما بدأت الحرب العالمية الاولى، انها ستكون قصيرة، وستنهي معها كل الحروب، لذلك سموها «الحرب العظمى«، لكنها استمرت خمس سنوات، وكانت بطيئة، وتحمّل أعباءها الجنود المشاة (قبل ظهور الدبابات والطائرات والصواريخ والمارينز). دمرت الحرب الدول الأوروبية، المنهزمة والمنتصرة معاً، ولم تنه كل الحروب، وضاعفت المشاكل بدلا عن حلها. ومات ملايين الأوروبيين بالجوع والمرض، ان لم يموتوا في ساحات القتال. وساد اوروبا الاحباط. وكانت الحرب العالمية الأولى، أيضا، مرحلة انتقالية بالنسبة للفن الأوروبي، سبقتها فنون المسارح واللوحات الكلاسيكية، وجاءت بعدها فنون الحياة اليومية والصناعة والتجارة. وانتقلت أوروبا من الفن الرومانسي الى الفن التكنولوجي. وهكذا ظهر، خلال تلك الفترة، فنانون غاضبون لأنهم شاهدوا القتل والدمار يحيط بهم، ومتشائمون لأنهم آمنوا بأن التكنولوجيا الجديدة لن تنقذ الانسان من نفسه. تجمع عدد كبير من هؤلاء في مقاهي باريس وزيوريخ وبرلين (وحتى في نيويورك). لكن نقطة تجمعهم وتمردهم كانت «كباريه فولتير« في زيوريخ، بعد أن هربوا الى سويسرا المحايدة التي لم تتأثر بالحرب كثيرا.

«كباريه فولتير«

كانت أغاني وموسيقى الكباريه، في البداية، عن الوطنية والنصر والسلام والحب. وعندما طالت الحرب تحولت الى انتظار الحبيب وحزن على وفاته. وعندما عم الخراب، تحولت الى تشاؤم صورته اغنية قالت: «فشل عصر الاحباط هذا في ان يكسب احترامنا». وظهرت مجلة «فولتير دادا» التي نشرت «مانفستو (بيان) دادا»، والذي قال: «هذه مجرد كلمة ترمز الى حركة عالمية جديدة. كل شيء يمكن ان يكون «دادا»: نحن، المانيا، علم النفس، الادب، اصدقاؤنا، زوجاتنا». واضاف المانيفستو: «ماذا نريد؟ نريد ان نغرس عقولنا في اعماق الشيء الذي نتحدث عنه، بدلا من ان ندور حوله. نريد ان نكون صريحين مع انفسنا والآخرين». وقال مراسيل جانكو، وهو من قادة الحركة: «فقدنا الثقة في ثقافتنا. لا بد ان ندمر كل شيء، ونبدأ من جديد. لا بد ان نتمرد على عقولنا، والرأي العام والتعليم والمؤسسات. باختصار، لا بد ان نتمرد على كل شيء».

دادائية التمرد والإحباط

هكذا ظهرت «الدادائية» لتعكس أحاسيس المثقفين المتمردين في عصر الاحباط، ولتعكس غضبهم على الارستقراطيين والبرجوازيين واغنياء الحرب، الذين بدوا لهم وكأنهم الفئات الوحيدة التي استفادت من الحرب العالمية الاولى. وتحولت «الدادائية» من قطع فنية متمردة الى ثقافة متمردة، شعرا ورواية ومسرحا.

أما كيف اختيرت كلمة «دادا»؟ ولماذا؟ فيروى انه سنة 1916 سأل فنان زميله في «كباريه فولتير» في زيوريخ: «ماذا نسمي هذا الفن المتمرد؟»، اجاب زميله «نخلق له اسما»، واخذ سكين طعام كانت على المائدة امامه، وأخذ قاموسا فرنسياً ـ المانياً كان على المائدة ايضا، وقال: سأغرس هذه السكين في هذا القاموس، ونختار الكلمة التي نقع عليها. وكانت الكلمة هي «دادا» (حصان باللغة الفرنسية). لكن معنى الكلمة لم يكن مهما، ما دامت العشوائية هي التي تعبر عن تمردهم.

وانتقل فن التمرد الى برلين، وظهر «نادي دادا»، وصدرت مجلة «دير دادا»، وشعارها: «كرة قدم لكل رجل؟ أو كل رجل كرة قدمه؟». وانتقل نفس الفن الى نيويورك، وظهرت مجلات مثل «نيويورك دادا» و«الرجل الاعمى» و«خطأ في خطأ».

وهكذا اصبحت الدادائية، هي الاساس الذي قام عليه، خلال العقود التالية، الفن السوريالي، والفن الشعبي «بوب»، والسينما التعبيرية، والموسيقى المستقبلية.

جنون أم عبقرية؟

وانقسم المثقفون بين معارض ومؤيد للدادائية. فمن جانب، قالت مجلة «اميركا آرت» انه «حثالة الفكر الانساني». وقال كاتب أميركي إنه فن «لا يفرق بين الانسان وفرشاة الاسنان». وقال آخر انه «فن مجنون لانتحار جماعي».

ومن الجانب الآخر، قال كاتب الماني «هذا اعصار يدمر كل شيء في طريقه». وقال آخر انه «تمرد على العالم الذي لا يكاد يشبع من التقزز».

ومنذ البداية لم تكن الدادائية مجرد لوحات فنية. كانت برنامجا سياسيا في برلين بعد الحرب العالمية الاولى، وانتقدت شروط استسلام المانيا بعد هزيمتها في الحرب (ويقال انها مهدت لظهور هتلر). وأقيم معرض في كولون ضد النبلاء والارستقراطيين والبرجوازيين الذين اثروا من الحرب. وكان حملة في نيويورك ضد المتاحف التي تعرض لوحات تقليدية وتعابير رومانسية.

لكن جزءا كبيرا من الحركة الدادائية كان فنياً، مثل تصميم «النافورة» المعروض حالياً في واشنطن. وهو يوحي بأنه كان في الأصل موضع للتبول، قبل ان يأخذ سمة النافورة. وسأل المصمم: «هل هناك فرق بين الميدان العام والحمّام؟ بين النافورة ومكان التبول؟ بين العام والخاص؟». وأجاب عن اسئلته قائلا إن «الخاص الطبيعي اصدق من العام الصناعي. لكننا نخفي الخاص ونظهر العام». انتقد فنانون ومثقفون محافظون التصميم في ذلك الوقت، وظلوا ينتقدونه حتى الأن. لكن لجنة فنية عالمية في لندن اعلنت، قبل سنتين، ان تصميم «النافورة اهم قطعة في الفن الحديث».

لوحات باسم وبدون اسم

بالاضافة الى «النافورة»، التي تلفت الزائر في المعرض المقام حالياً، صورت لوحات وقطع أخرى، احباط ما قبل ثمانين سنة. فمثلاً هناك «عريس وعروس برجوازيان»، الرجل يخفي وجهه والمرأة تكشف عن ساقيها. أما في «القناع»، فرجل يخفى عينا ويكشف الاخرى، ويتبسم من جانب فمه، ويغضب من الجانب الآخر. ولوحة «عارية تنزل على السلم» فيها خيوط هنا وهناك (كان صاحب اللوحة رسم، قبل ذلك بعشر سنوات، لوحة حقيقية فيها عارية تنزل على السلم. لكنه تمرد على الرسم التقليدي وتحول الى اللامعقول).

«عودة الى العقل» هي قطعة من شريط فيلم سينمائي عليها رسوم غريبة تتهكم من عصر السينما والافلام الخيالية. أما «لاهوق» فهي «موناليزا» المشهورة، وعلى وجهها شارب وذقن. وفي«معوقات»، توجد ستون حمالة ملابس خشبية، علقت وكأنها معوقات حقيقية ترمز الى الاعذار والتعليلات، لكنها، طبعا، مجرد حمالات ملابس.

و«بدون اسم»، هي قطعة معدنية ثقيلة وعملاقة، صممتها الفنانة صوفيا توبر. تعمدت الفنانة الا تصمم شيئا انثويا من قماش او حرير، وان تصمم شيئا رجاليا، وكان ذلك، في حد ذاته، دليلا على تمرد المرأة في ذلك الوقت. ثم اضافت عنوان «بدون اسم»، رمزا لمزيد من التحدي والتمرد على سيطرة الرجل (الذي ربما كان يريد التأكد من كل شيء).

بالإضافة الى فن الرفض، هناك ادب الرفض الذي ولد قبل ثمانين سنة. فقد كتب فرانسيس بيكابيا: «نحن لا شيء، ولا نحس بأي شيء. آمالنا لا شيء، واحلامنا لا شيء، ومستقبلنا لا شيء». وكتب ترسدان تزارا: «يتهموننا بأننا غير متجانسين. لكن كل شيء غير متجانس». في ما قالت مارغري ريكس: «سيلحق بك التمرد وان هربت منه». ورأى بيرت شوتزغر «أن كل شيء تحطم، ولا بد من أشياء جديدة». وأوصى مان راي ان يكتب على قبره: «لم يكن يهتم بما حوله، لكنه كان يتابعه».

واحدة من غرف معرض الدادائية في واشنطن، عكست الاحباط الذي سببته الحرب الاولى، حيث تعرض صور جندي مقتول، وكمام غاز لطفل، ويد مقطوعة من البلاستيك عليها بقايا دم، وجندي بدون رأس، وجندي اختفى نصف وجهه، ورجل بأنف صناعية. وعلقت مجلة «واشنطن سيتي بيبر»، ان هذه الغرفة «يمكن ان تسمي غرفة حرب العراق»، و«ان الذين احضروا هذا المعرض الى واشنطن، لا يريدون فقط تذكيرنا بالماضي وبمآسي الحرب العالمية الاولى، لكنهم يريدون، ايضا، ربط الماضي بالحاضر». واضافت المجلة: «الدادائية لم تقتل في الحرب العالمية الاولى، ولا في الثانية، ولا في حرب كوريا، ولا في حرب فيتنام، الدادائية عاشت معنا قرابة مائة سنة لتشهد حرب العراق».

ونصحت جريدة «واشنطن بوست» كل من يزور المعرض ان «يتذكر سجن ابو غريب». وقالت ان زوار المعرض يمكن ان يعبروا عن احباطهم وتمردهم اذا «لبس كل رجل بيجاما وردية، وحذاء عسكريا، ووضع على صدره حمالة نهود كانت ترتديها جدته. واذا لبست كل امرأة سروالا كان يرتديه جدها، ورسمت شاربا وذقنا على وجهها» (مثل لوحة «موناليزا المتمردة» في المعرض).