الاعتراف ممنوع حتى إشعار آخر

هل السيرة الذاتية موجودة في الأدب العربي؟

TT

قبل سنوات، أصدرت مؤسسة «الأهرام» كتابا تضمن حوارات لنجيب محفوظ مع الناقد رجاء النقاش. ضم الكتاب اعترافات وآراء لأديب نوبل في عدد من المحيطين به، ولم تكد تمر أيام على صدور الكتاب، حتى سارع ابن شقيقته، محمود الكردي، لرفع دعوى قضائية، مطالباً بمنع توزيع الكتاب، بعد أن رأى أنه يسيء لكثيرين، ومن بينهم محفوظ نفسه! قبلها بسنوات كان رمسيس عوض قد خاض معركة مشابهة، بسبب مذكرات شقيقه لويس عوض، لأنه رأى أنها تسيء له ولآخرين. وبعد هاتين الواقعتين، خاض أهالى عدد من طلاب «الجامعة الأمريكية» معركة لوقف تدريس السيرة الذاتية للأديب المغربي محمد شكري، لأنها تتضمن أحداثا تعتبر خادشة للحياء. مرت السنوات وغابت الأحداث السابقة من ذاكرة الكثيرين، وبقيت السيرة الذاتية العربية، تعانى القيود التي تثبت أن البوح ممنوع إلى أجل غير مسمى.

البعض قرر أن يعفي نفسه من ورطة السيرة الذاتية، بالإقلاع عن كتابتها، وآخرون تحايلوا على العقبات باللجوء إلى رواية السيرة الذاتية التي تمنحهم القدرة على البوح دون الخوف من تهديدات مجتمعية أو أسرية تحكم على الموضوع من زاويا، لاعلاقة لها بالإبداع. فمن بين ما ضايق ابن شقيقة نجيب محفوظ في اعترافاته، أنها تتضمن إساءات فاضحة، عندما سئل عنها قال، في تصريحات صحافية نشرت وقتها: «مثل قوله إنه كان يدخل بيوت الدعارة السرية والعلنية، وهذا الكلام اثار موجة من السخط بين أبناء شقيقاته وأحفاده، فكيف يمكن ان ينشر كلام مثل هذا عن أديب عالمي، حاصل على جائزة نوبل. والمفروض انه قدوة للشباب والأجيال الصغيرة. أنا فوجئت بهذا الكلام، واذا كان نجيب محفوظ قد ردد شيئا من هذا، فهو رجل كبير السن، ولا غبار عليه اذا أخطأ، وكان يجب الا ينشره رجاء النقاش، كان عليه ان يحذف هذا الكلام، بدلا من فضح أديب عالمي يعيش في مجتمع عربي محافظ، له قيمه وتقاليده».

العرب لا يكتبون السيرة الذاتية

السيرة الذاتية، هي المحور الرئيسي لرسالة الدكتوراه التي يعدها حاليا الباحث ممدوح النابي بكلية الآداب «جامعة القاهرة»، فيها يبدأ بالإشارة إلى أن هذا الجنس الأدبي الذي يقوم على تعرية الذات نادر في العالم العربي، وقد «انتهى بعض النقاد إلى نتيجة عامة ومؤلمة، وهي نفي وجود سيرة ذاتية عربية تتجسد فيها مقومات السيرة الغربية، باستثناء «المنقذ من الضلال» للامام الغزالي و«التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا»، و«كتاب العبر» لأسامة بن منقذ، أما ماعدا ذلك فهو ـ حسب تعبير الدكتور سليمان العطار ـ محاولة لإخفاء السيرة الذاتية وليس كتابتها!!». ويشير النابي في أطروحته إلى عنصر الخجل الذي يقف عائقا حقيقيا في مواجهة محاولات البوح: «يعتبر الحياء رقيبا على جوهر الإنسان وكيانه الروحي الحقيقي، كما يقول عبد الرحمن بدوي. وارتفاع حدة الرقابة الداخلية دليل على وجود الرقابة الخارجية، فحياء الإنسان يمنعه من أن يعري ذاته أمام من يعرفونه، خصوصا إذا كانت التعرية مرتبطة بالأخلاق وانتهاكها. أسباب الحرج عديدة لعل من أهمها أن كاتب السيرة لا يكتب عن ذاته فقط، وإنما يكتب عن آخرين، ممن شاركوه في صنع سيرته، فعلاقته بهم تتضمن امورا قد يتحرج الكاتب من البوح بها ربما بدافع الحرص عليهم أو بدافع تجميل صورتهم أمام الآخرين، وأي محاولة تتجاوز ذلك قد تجابه بردود فعل معارضة.. كل هذا يحول دون وجود سيرة ذاتية عربية خالصة تتجاوز المحظورات، لأن المجتمع لا يزال محكوما بمجموعة من الضوابط والأعراف التي تهدد من يخرج عليها بالمصادرة أو العنف».

لكن ألم تشهد السنوات الأخيرة، تغيرات مجتمعية وقيما أخلاقية جديدة، يرى البعض أنها جعلتنا أكثر قدرة على استيعاب الاعترافات؟ يجيب النابي:«هذا النوع من الأدب، لا يزال يقبل، على استحياء، حتى في الأوساط التي قد نرى انها تتمتع بمساحات اوسع من التحرر، والدليل ما حدث قبل سنوات مع رواية محمد شكري «الخبز الحافي»، فقد كانت مقررة على طلبة الجامعة الأمريكية، ومع ذلك ثارت ثائرة أولياء أمور الطلبة، وتم وقف تدريس هذه السيرة التي تتميز بالجرأة البالغة. كل هذا يشير إلى أن البيئة العربية لا تزال غير مهيأة لقبول مثل هذه الأعمال طالما تخطت الحدود المسموح بها»، بل أن الرفض يمكن أن يكون منصبا على جنس دون آخر، فيستعيد الباحث ماحدث عام 1997: «جاء على لسان المفتي السابق نصر فريد واصل أنه لا يجوز للمرأة أن تؤلف كتابا تعترف فيه بما امر الله بستره، وهو ما يطلق عليه أدب الاعتراف، فالشريعة الإسلامية لا تقر ذلك، وهذا ليس من باب الحجر على التفكير والرأى، وإنما يتعلق الأمر بالحفاظ على كيان الأسرة». في ظروف كهذه تصبح رواية السيرة الذاتية مهربا مهما من هذا المأزق والغريب أنها ليست حلا عربيا فقط، فبعد أن نشر جان بول سارتر جزءا من سيرته الذاتية بعنوان الكلمات قرر اللجوء إلى الرواية لاستكمال الكتابة قائلا:«لقد حان الوقت لكي اقول الحقيقة أخيرا، ولا يمكن ان اقولها إلا في عمل تخييلي»!!

* الخراط: ميثاق لم أوقعه!

* مؤخرا، احتفل الوسط الثقافي المصري ببلوغ الروائي إدوار الخراط سن الثمانين، وخلال سنوات طويلة أمضاها الخراط فى الكتابة، لم يفكر بتسجيل سيرته الذاتية بشكل مباشر، ودائما كان يبرر ذلك بقوله: «لا أعتبر حياتي الشخصية شيئا مهما، بحيث ألتزم بالنقل الحرفي من أحداثها، لكنني كنت أستخلص دلالات معينة منها، وأبتكر سياقات أمزج بينها وبين ما عرفته وعايشته». أنتقل بالحديث إلى فضاء أوسع وأسأله عن ضيق مساحات البوح المسموح بها في المنطقة العربية، ومدى تأثيرها في تراجع أدب السيرة الذاتية لدينا فيجيب:«البيئة الثقافية في العالم كله تتمتع بقدر من الحرية والطواعية أكثر بكثير مما لدينا، عندنا تزيد مساحة المحظورات التي تكبل أقلام الكتاب، فهناك من يعترض لمجرد تصوره أن السيرة الذاتية لكاتب ما قد تسيء إليه، ولا زال البعض يتعامل مع الكاتب على أنه قديس لا ينبغي أن تكون له اخطاء».

وينتقل الخراط من العام إلى ماهو أكثر تحديدا، فيذكر بما حدث مع نجيب محفوظ قبل سنوات عندما اعترف لرجاء النقاش بأنه عرف حياة العربدة، في مرحلة ما من حياته، ويتساءل إدوار الخراط: «حدث هذا بسبب كلمات قليلة، قيلت في المطلق ودون تفاصيل، فماذا لو اعترف الكاتب بوقائع محددة؟ بالتأكيد يؤدي افتقاد مناخ الحرية إلى تقييد السيرة الذاتية وحرمانها من التلقائية والبساطة والصراحة». ويرى الخراط أن رواية السيرة الذاتية هي المخرج المناسب من هكذا مأزق: «بالنسبة لي مثلا لا أتناول عناصر السيرة الذاتية كما هى، وإنما اكتب عناصر شبيهة بما حدث في الحياة الحقيقية، لكن بعد فرض سياق روائي وقصصي عليها، ليمتزج الواقع بالمتخيل وتتداخل عناصر السيرة الذاتية في نسق الروائي والقصصي. السيرة الذاتية تعتمد على ميثاق غير مكتوب بين المؤلف والقارئ بأن يحكي الأول بصراحة ووضوح تفاصيل ما مر به من أحداث. هذا ميثاق لم اوقعه، وما أندر من وقعوا بإمضائهم عليه». هل كان اختيار الخراط لهذا النمط من الكتابة حيلة للتخلص من حرج محتمل قد تسببه السيرة الذاتية، وفق هذا الميثاق؟ يرد بقوله:«المسألة لا تتعلق بالإحراج، لكنني أتساءل باستمرار: ما أهمية سيرتي الذاتية للقارئ العام؟ اعتقد أنه من الأفضل استخلاص عناصر ودلالات منها تضفي على رواية لي أبعادا جمالية ومعرفية».

إساءات متعمدة

عندما صدرت، قبل سنوات، السيرة الذاتية للكاتب لويس عوض بعنوان:«أوراق العمر»، رأى فيها بعض المثقفين إضافة حقيقية للسيرة الذاتية الجريئة، لما تضمنته من اعترافات، لكن مساحة البوح التي اعتبرها هؤلاء إنجازا، مثلت عنصر إزعاج لآخرين. فعقب نشر المذكرات ثار الناقد رمسيس عوض، شقيق لويس، وخاض حملة إعلامية مضادة، بررها بقوله:«اعترضت على أوراق العمر، وكانت لي أسبابي، فهو لم يتحر الحقيقة في بعض الأحيان، كما أنني لا أحب أن يمجد الإنسان نفسه، إضافة إلى سبب قانوني فليس من حقه قانونا أن يشهر بغيره، لكن له أن يفعل بنفسه ما يريد. وقد أساء لويس عوض إلى الكثيرين»، ويتابع عوض:«أنا شخصيا لا أريد لهذا الكتاب أن يكون منشورا، لأن الصواب جانبه في أحيان كثيرة، ورغم ذلك يتعامل البعض معه على انه مرجعية، وأن الآراء الواردة فيه نهائية».

أسأل عن المعوقات التي تمنع ازدهار السيرة الذاتية عندنا، فيجيب رمسيس عوض: «كل كاتب يحاول أن يمجد نفسه ليظهر كبطل، وأنه أفضل من كل من تعامل معهم. وهذا وضع غير طبيعي على الإطلاق، لأنه من المفروض أن السيرة الذاتية تعتبر نوعا من التطهير للنفس ومواجهتها بكل نقائصها، وهو ما يحدث فى الغرب حتى منذ الوقت الذي نشرت فيه اعترافات جان جاك روسو، وانتهاء بجان جينيه الذي اعترف بكل مباذله الجنسية، وبشكل يكاد يكون مقززا.

في الغرب لا يستنكفون من نشر فضائحهم الخاصة، كنوع من الطهارة، أما لدينا فالكاتب يجدها فرصة لاستعراض أمجاده». لكن الواضح في «اوراق العمر» أن لويس عوض لم يتعرض للمحيطين به فقط، فقد تحدث عن علاقة جنسية له بشكل صريح، أي أن الاعترافات لم تكن تمجيدا مطلقا للنفس. يعلق الدكتور عوض على هذه الجزئية بقوله: «تعامل بعض المثقفين مع هذا الجزء البسيط من الصراحة، باعتباره فتحا ومجدوه رغم أنهم لو اطلعوا على الثقافات الغربية، لوجدوا في هذه الاعترافات نوعا من السذاجة والفجاجة وعدم مجابهة النفس بطريقة صريحة. يمكن تفهم أن يكون اي شاب قد ارتبط بعلاقة جنسية مع امرأة، لكن الموضوع ينتهي عند هذا الحد. أما فضح النفس بدون مبرر فهذا جهل».

كلمات رمسيس عوض الأخيرة، تضيف إلى عوائق السيرة الذاتية عائقا جديدا متعلقا بتقييم الكاتب والمتلقي للحدث الذي سيصبح محورا للبوح والاعتراف. وما يراه الكاتب مهمًا قد يتعامل معه الآخرون على انه تافه. (يبدو أن كتابة السيرة الذاتية في منطقتنا ستظل حلما بعيد المنال).

قيم ومعايير تضاف إلى المحاذير

د.علي ليلة، أستاذ الاجتماع بكلية الآداب «جامعة عين شمس «يشرح لنا، أن لكل مجتمع قيمه، وأن الحديث عن سيرة ذاتية عربية مكتوبة وفق المعايير الغربية أمر لا يصح، ويوضح: «المرجعية القيمية للمجتمعات الغربية تختلف عن تلك الخاصة بمجتمعاتنا العربية، لذلك أرى ان الحكم على ما لدينا من سير ذاتية بمقاييس الغرب خطأ كبير. ينبغي أن تنطلق سيرنا الذاتية من قيمنا نحن، لكي تكون لنا هويتنا الخاصة، لذلك أنا لا أجد أية غرابة في أن يخفي الكاتب أثناء كتابته لسيرته الذاتية، بعض الأمور التي تتناقض مع المرجعية العامة»، ويوضح أستاذ علم الاجتماع، المقصود بالمرجعية بقوله: «لا أعني بها النزعة المحافظة بقدر ما أقصد منظومة القيم، التي تحدد هوية أمة وإرادتها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية».

لكن اللافت أن معظم المجتمعات العربية تعيش مرحلة من الانفتاح الملحوظ، والفضائيات تعرض الكثير مما كان في الماضي القريب، تجاوزات لا يمكن القبول بها، فلماذا تبقى السيرة الذاتية تراوح مكانها، على هذا السؤال يجيب علي ليلة: «حالة التحرر الحالية تقترب من الانفلات، وعندما يعترف الكاتب في سيرته الذاتية بأن له عشيقة مثلا، فإنه يكرس لهذه الحالة، وهو أمر خطير فى زمن أصبحت القيم تعاني فيه من الضعف والانهيار أحيانا. لذلك أرى أن التفكيك لا يأتي فجأة، وانما على مراحل، وانتقال الصراحة إلى السير الذاتية مسألة وقت فقط. وأعتقد أنه لن يمضي وقت طويل حتى نصل إلى تلك النوعية من الكتابة التي تعتمد على الصراحة في كل التفاصيل وخاصة الشخصية».

وحتى يحدث ذلك، ستظل رواية السيرة الذاتية هي المهرب الذي يكفل للكاتب أن يبوح بحرية أكبر:«وهنا أحب أن أميز بين التعبير الملتزم بمرجعيته والتعبير الملتزم بمرجعيات أخرى. فعندما يعتمد كاتب غربي على الصراحة في سيرته الذاتية، فإنه بذلك يكون ملتزما بمرجعيته التى تتقبل ذلك. أما فى مجتمعاتنا العربية فإن اتباع الأسلوب نفسه يتحول إلى استعداد للتفريط في مرجعيتنا، في وقت نعاني فيه من انهيار، ونحتاج إلى إرادة تحافظ لنا على رصيدنا المتبقي».