الماغوط والعجيلي جمعهما الموت بعد أن فرقت بينهما الأمزجة

رحيل قطبي الثقافة السورية المتضادين حدّ التنافر

TT

اختلفا في كل شيء، ولم يجتمعا يوماً على شيء، ولولا القدر لدفن كل منهما في يوم يختلف عن الآخر. الأديب الطبيب عبد السلام العجيلي والشاعر محمد الماغوط، البعيدان عن بعضهما بعد السماء عن الأرض. ربما لم نكن نجرؤ على المقارنة بينهما، كوجهين متناقضين للثقافة السورية، لولا رحيلهما معاً، وكأن غياب أحدهما استدعى غياب الآخر، في تلازم السالب والموجب.

محمد الماغوط وعبد السلام العجيلي، كلاهما تشّبع بحب مدينته الموحلة. لكن العجيلي ظل ملتصقاً بالرقة، ملتزماً بهموم أهلها، لم يصرفه عنها اهتمامه بالأدب والسياسة والسفر، وكان كلما غادرها عاد إليها على عجل. وحين وصل العجيلي إلى النيابة عام 1947 وترك العيادة، صادف في إحدى إجازاته في الرقة، أن طرق بابه رجل ومعه طفلة مصابة بألم في عينها. لم يكن في الرقة سوى طبيب حكومي، نادراً ما يتواجد في عيادته. فحص العجيلي الطفلة، وإذا بعينها تقرح خطير، سأل والدها لماذا تركتها هكذا؟ قال، لأننا لم نجد الدكتور، ولا ندري ماذا نفعل! تألم كثيرًا، وقال في سره، لأجل النيابة أصيبت هذه الطفلة بالعمى. لذا عندما غادر البرلمان، إثر انقلاب حسني الزعيم عام 1949، عاد الى العيادة، وقرر ألا يترك الطب أبداً. ومن مهنته الإنسانية كطبيب اكتسب مهاراته في التعاطي مع الناس والتواصل مع أوجاعهم.

أما محمد الماغوط، فقد خرج من مدينته «سلمية» الى السجن، ربطته بها علاقة أشبه بالقطيعة، مع أنها لم تفارق نصه الشعري، أما أول صورة يتذكرها في طفولته بالسلمية، فهي سماء شاحبة وسحب ورمال: «حين كنت في السابعة من عمري، أطلقتني أمي لأول مرة خارج باحة البيت لأرعى الخراف، فيما تبقى من المروج النامية مصادفة بين المخافر. وعند الأصيل عادت الخراف ولكن الراعي لم يعد!!». حتى ترميم منزله القديم في سلمية، منذ عامين، تم بواسطة أقربائه. وجاءت أخيراً عودته محمولاً على نعش بعد انقطاع دام أكثر من خمس عشرة سنة، وكثيراً ما عاتبته سلمية على القطيعة، لكن وعده لها لن يتحقق بزيارة ولو عابرة، على هامش حفل تكريم كانت ستقيمه مدينة حماه في 17 أبريل (ابريل) الجاري.

الأديبان تحدثا عن وحول مدينتيهما، لكن العجيلي تحدث وهو يخوض فيها إلى الركب، وجاهد كثيراً من خلال مقالاته وقصصه الطريفة وعلاقاته الشخصية، لتخليص المدينة من الوحل والمرض والجهل، في ما الماغوط غاص نصه في الوحل، ليلطخ كلماته به، فكان مفتاحاً لوجدان المحرومين. إلا أن المفارقة الأهم أن العجيلي اتهم بالارستقراطية والجلوس في برج عاجي، استحق عليهما الاستبعاد من دائرة اهتمام مثقفي اليسار، حيث لم يعترفوا بآثار الوحل على ملابسه الأنيقة ووصف بالكولونيالي، بينما كانت أسمال الماغوط في نصوصه أكثر صدقاً، ليبقى بنظرهم الناطق باسم المتعثرين على الأرض، وهو الرابض مذعوراً خلف زجاج شرفته الصغيرة، في أحد أحياء دمشق. إلا أنه قبل أن تمشي الجنازتان في كلتا المدينتين، داهمت سوريا ايام ماطرة، كان أولها مطر موحل كسا البلاد كلها بغلالة من تراب. ليكون الموت واحداً والوحل واحداً.

العجيلي عاش حياة قاسية رغم انتمائه لعشيرة ذات حظوة، ولم يكن سبيل المال إليه متيسراً كما ظن كثيرون، فقد نشأ في كنف أب عصامي، يولي الأهمية الأولى للعمل. وكان على العجيلي أن يشتغل في الطاحونة أثناء دراسته الأولى، وان يخرج في مواسم الرعي إلى البادية ليقضي إجازة الصيف في بيت الشَعر، وحين كتب عن البداوة، فإنما كتب عن حياته وحياة أهل منطقته التي ظل غارقاً فيها حتى يومه الأخير.

الماغوط الذي كان فلاحاً وطالباً في المدرسة الزراعية، اكتشف أن الزراعة ليست مهنته، وإنما مكافحة الحشرات والطفيليات البشرية، فدخل الحزب والتجأ إلى مقره بسبب مدفأة، ومنه الى السجن، ومن ثم الى أرصفة بيروت ودمشق، ليقضي حياته متسكعاً، يلتقط صوره الشعرية في المقاهي والحانات تارة، ويستعيد صور حياته البائسة في سلمية تارة أخرى، لذا حين كتب عن الحرمان والجوع، فإنما كتب عن ذاته هو. كتب الماغوط بصدق شديد، عن ذاته الضعيفة الخائفة، فرأى آخرون في كتابته ذاوتهم المقموعة والمذعورة.

العجيلي لم يعاقر الخمر يوماً، ولم يعرف التدخين. فهو الطبيب الحريص على التقاليد، الزاهد بالطعام مكتفياً بوجبة واحدة في اليوم. لم يكن عبثياً وإنما محافظاً، راعى مجتمعه وفرض رقابة على سلوكه الشخصي والأدبي. صادق وكتب عن نساء أجنبيات، لكنه لم يقارب نساء محيطه، ووضع قواعد صارمة لذلك، حتى لا يسيء الى سمعته في المدينة، بالإضافة الى عنايته بلياقته، مثابراً على السير مساء كل يوم لمدة ساعتين على ضفة الفرات. اعتنى العجيلي بجسده، حتى خذله العمر في الشهور الأخيرة وأقعده المرض؛ هكذا جاءته الشيخوخة دفعة واحدة بعد ثمانية وثمانين عاماً، فمكث شهوراً قليلة، قضاها برعاية أخته وأصغر أبنائه الطبيب حازم، وحين اقترب موعد الرحيل حضر ابناه، الطبيبان، بشر وعلاء من الولايات المتحدة، ليقفا معه في لحظاته الأخيرة. الماغوط أنهكه الإدمان على التدخين والشراب، اتعبا جسده، فلم يعد قادراً على السير، صباح كل يوم من بيته في المزرعة الى مقهى أبي شفيق بالربوة، داهمته الشيخوخة بشكل مبكر، وداهمته كآبة تركته وحيداً مع زجاجات الأدوية. تمكن منه المرض، وأخذ ينتقم منه ببطء ولؤم، فيما كان وزنه يزداد وحركته تثقل، ليمضي سنواته الأخيرة تحت إشراف ابن أخته الطبيب محمد بدور وأخته، بعد زواج ابنتيه سلاف وشام اللتين سافرتا، إحداهما الى أوروبا والأخرى الى أميركا. الأصدقاء لم يغادروا الماغوط، لكن حين جاءه الموت، كان وحيداً يدخن سيجارته الأخيرة، ورحل قبل أن تسقط من أصابعه.

كان الأديبان على طرفي نقيض، فالعجيلي مثقف رفيع يجيد عدة لغات، ويقرأ بمعدل مائة كتاب في العام، بالإضافة لاشتراكه في العديد من الدوريات الفرنسية والانكليزية وبالأخص الطبية. دعم معرفته بالسفر والترحال الى أرجاء عديدة من العالم، فكان يخصص من ثلاثة الى ستة أشهر كل سنة يقضيها في بلد أجنبي غالباً، يجوبه بسيارته. لكن ذلك جر عليه النقمة، إذ نعت بالكاتب المرفه، في وقت كانت الثورات الكادحة تفرض سلطاتها على الأدب، فظلم كثيراً. الحقيقة أن ما كان يجنيه العجيلي من عمله في العيادة، يصرفه على السفر ونهمه المعرفي. لم يقبل الجوائز ولم يلتحق بتنظيم سياسي وبقي مستقلاً، ليحسب على اليسار حين كان اليمين صاعداً، ويحسب على اليمين لدى صعود اليسار، وهو لا هذا ولا ذاك.

الماغوط يقول «لجأت إلى (الصورة) الى الشيء البصري وليس إلي الشيء الفكري، لأني أفتقد الثقافة.. أنا لست مثقفا وشهاداتي متوسطة زراعية. ولا أعرف لغات، وبهذا اعتبر ان الله رحمني من كل هذا العبء». جاء الي الشعر عن طريق الصدفة حين اكتشفه أدونيس، وقدمه لجماعة مجلة «شعر»، التي ذهلت بصدقه وفطرته. المرحلة الوحيدة التي قرأ فيها حين كان ملاحقاً، واختبئ في غرفة واطئة السقف، بعدها لم يعد يقرأ إلا نادراً، كما يحب أن يؤكد دائماً. فهو لا يحب الفكر، ولا الفلسفة ولا حتى الأسئلة، ويعتقد أنه لو كان مثقفاً لكتب «طلاسم مثل أدونيس». كان يقول إنه لا يهتم بالأكل، ربما لأنه عرف الجوع في وقت مبكر جداً، ومع أن الدولة خصته براتب تقاعدي ظل هاجس الفاقة يلاحقه.

تبرأ من انتمائه لـ«الحزب القومي السوري»، رغم ما فتحه له انتسابه للحزب من أبواب واسعة، فيه تعرف الى أدونيس، والى الشاعرة الرقيقة سنية صالح زوجته، وكان لها دور أساسي في حياته. حُسب على القوميين حين لاحقه قوميو الوحدة، وحسب على المعارضة عندما تبرأ من السياسة، ومن المواقف المنحازة، فلم يكن مع ولا ضد، وإنما محض حزين وغاضب وثائر. كان أقرب الى الشباب الثوري وهو ما أكسبه شعبية منقطعة النظير لدى أجيال عدة متعاقبة، حيث رأوا فيه أنموذجاً للتمرد ولإثبات الذات البدائية في المدينة، دون حاجة للالتحاق بمظاهر التحضر وتكاليفها الباهظة. فالماغوط الذي وصف نفسه بـ«ذئب بري»، حمل فطرته وريفيته الى قلب بيروت، وهناك فجر قنبلة شعره النثري دون قصد. والتحق به كثيرون، وهو يفتخر بأنه لم يرش أحدا، ومع ذلك فأتباعه كثر. وهو كلام صحيح، لكنه يفضح نرجسية، لم يجد في إعلانها أي حرج، وهو بذلك يختلف عن العجيلي البدوي، الذي حمل المدنية من دمشق ومن عواصم العالم الغربي الى مدينته ذات الطابع البدوي، ليكون أحد أهم معالمها مثل نهر الفرات والرصافة، وكتب عن بيئته فانتشر بحب وحكمة، ككتابه «عيادة في الريف» الذي رسم من خلاله صورة عميقة للريف السوري. العجيلي اتباعه أيضاً كانوا كثرا، وهؤلاء لم يظهروا في الصحافة كما ظهر محبو الماغوط، لأن الزمن كان يميل نحو التمرد والغضب وتحطيم المقدسات، ولم يكن يبالي كثيراً بالرصانة والحصافة.

مسافات تفصل بين أديبين، لكل منهما صفاته المختلفة عن الآخر، ولكل منهما جمهور عريض. قارئ الماغوط لا يستهويه العجيلي لأنه كلاسيكي، وقارئ العجيلي لا يستهويه الماغوط لأنه عبثي، كما أن كلاً منهما ظل ينفي وجود الآخر، حتى ثبت العكس، يوم التشييع.