فرنسا تحتفي بأديبها جان جينيه الهارب من الإصلاحية إلى اللصوصية

الكاتب اللقيط الذي خط أول مؤلفاته في السجن

TT

جميل أن تكرّم الأمم مبدعيها، ولو كانوا، فيما مضى، من صغار اللصوص أو ممن يطاردون هوى النفس الأمارة بالسوء، في بلاد الله الواسعة. والمعرض الذي يحتضنه متحف الفنون الجميلة في مدينة تور الفرنسية، بمناسبة الذكرى العشرين لوفاة الكاتب والمسرحي جان جينيه هو لفتة من هذا النوع الأنيق. إنها المرة الأولى التي تخصص فيها فرنسا معرضاً بهذا الحجم لكاتبها الشقي الذي طالما اعتبر نفسه غريباً فيها، لا تربطه بها من صلة سوى اللغة.

لماذا تكرم فرنسا جان جينيه في مدينة تور، وليس في العاصمة باريس؟ ذلك لأنها قريبة من إصلاحية الأحداث التي كان جينيه من نزلائها منذ سن الخامسة عشرة. ومن يطالع أعماله يلاحظ الحضور المتكرر لإصلاحية «ميتراي» الزراعية التي كانت بمثابة معسكر لاحتجاز الأطفال الخارجين على القانون. لقد ورد ذكرها في «يوميات لص»، وفي «معجزة الوردة»، بل ان جينيه قال في مقابلة مصورة أجراها معه برتران بواروـ ديلبيش، في أواخر حياته، إنه تعلّم الكتابة في «ميتراي»، لا بفضل التعليم الفقير الذي تلقاه هناك، وإنما لأنه اكتشف فيها، بالمصادفة، ديوانا لرونزار، الشاعر الذي هداه الى رهافة اللغة.

يدور المعرض المقام في مدينة تور، حول بضعة محاور رئيسية، مثل الاصلاحية، والمسرح، والسينما، والرسم، والأقنعة، والموسيقى، وطبعاً المثلية الجنسية التي لم يخفها جينيه. وفي العرض، يشاهد الزائر كمية من الوثائق والرسوم والمراسلات والصور التي يخرج بعضها من أدراجه للمرة الاولى، منها ما يبعث الدهشة مثل مخطط تصميم الديكور لمسرحية «عبيد»، ومنها ما هو مثير للعجب مثل نصوص الأحكام القضائية الصادرة في حق «المتهم» جان جينيه، ومنها ما يحرك المخيلة مثل تلك الفقرات الموجزة التي كتبها جينيه في المقارنة بين منحوتات جياكوميتي وجسد صديقه العربي عبد الله.

طفل الإصلاحية اللقيط

ولد جينيه في 19 ديسمبر (كانون الأول) 1910، لأب مجهول وأم تخلت عنه بعد أشهر من ولادته، وعهدت به دائرة اليتامى الى زوجين في قرية «لينيي»، وظل في عهدتهما حتى بلغ الرابعة عشرة. وبعد سلسلة من التمردات والتوقيفات، تذوق الولد المراهق مرارة السجن للمرة الاولى في معتقل «لا روكيت»، حيث أمضى ثلاثة أشهر في زنزانة. ولما خرج، أعيد احتجازه لركوبه القطار بدون تذكرة بين باريس وبلدة مو. وقد عهد به القاضي الى الاصلاحية الزراعية في «ميتراي».

ولكي يغادر الاصلاحية، استبق جينيه استدعاءه للخدمة العسكرية وتطوع في الجيش لمدة سنتين. وفي عام 1930 سافر الى سورية وأقام في دمشق حيث ساهم في تشييد قلعة عسكرية صغيرة. وفي السنة التالية عاد الى الحياة المدنية وقام بأولى رحلاته الى اسبانيا قبل أن يتطوع مجدداً في الجيش ويسافر للخدمة في المغرب. بعد انتهاء العسكرية، عاد ليتسكع في اسبانيا، ثم ليتطوع وليتخلف عن الالتحاق بالجيش ويعتبر هارباً من الخدمة. وللتخلص من الملاحقة، قام جينيه برحلات واسعة في اوروبا، وحال عودته الى باريس عام 1937 ارتكب عدة سرقات تافهة (مناديل وقمصان وكتب) وسدد ثمنها من حريته حيث كان يقبض عليه ويحاكم ويسجن.

في عام 1942، في السجن، كتب «سيدة الأزهار»، وقرأ النص جان كوكتو بعد ذلك بسنة، وبفضله تعرف جينيه الى أول ناشر في حياته، بول موريهيين، وفي العام التالي ألقي عليه القبض مجدداً لسرقته طبعة نادرة من كتاب «أعياد رقيقة» لفيرلان. وكتب كوكتو في مذكراته أن القاضي لما سأل جينيه: «هل تعرف ثمن الكتاب؟»، رد المتهم: «أعرف قيمته ولا أعرف سعره». وبسبب تكرار السرقات كان يتهدده خطر السجن المؤبد، لكن كوكتو تدخّل لصالحه واصفاً إياه في المحكمة بأكبر كاتب في العصر الحديث. وانتهت القضية بثلاثة أشهر من السجن، كتب خلالها «معجزة الوردة». وبفضل العديد من المناشدات اطلق سراح جينيه عام 1944 فكتب «دفن الموتى» بعد أن فجع بمصرع صديقه المقاوم الشيوعي الشاب جان ديكارنان، وتوالت بعدها مؤلفاته.

وعد قطعه لياسر عرفات

لم يكتف بالكتابة، وأراد أن يجرب السينما، فأخرج عام 1950 فيلمه الوحيد «انشودة حب». وبعدها بسنة بدأت «دار غاليمار» بنشر سلسلة «الأعمال الكاملة لجان جينيه»، وقدّم للجزء الأول منها جان بول سارتر بمقدمة طويلة تحت عنوان: «القديس جينيه، الممثل والشهيد». تعرف جان جينيه على عبد الله عام 1955، وكان هذا الأخير لاعب سيرك لم يبلغ العشرين من العمر، أصبح أكثر أصدقائه حميمية، وعنه كتب «البهلوان»، وهو نص يتغنى بقدرة الفن على مواجهة الموت. وإثر انتحار عبد الله، مرّ الكاتب بأزمة عميقة وقام بتمزيق العديد من مخطوطاته، وبينها مسودات كتاب عن الفنان رامبرانت، ثم انقذ منها نصين قام بتجميع قصاصاتهما، بناء على نصيحة من يول تيفنان، نشرا تحت عنوان «ما تبقى من رامبرانت الممزق في مربعات صغيرة منتظمة والمرمي في المرحاض».

اتجه جينيه الى الكتابة السياسية في وقت متأخر، ونشر مقاله السياسي الأول «عشيقة لينين» في مجلة «لو نوفيل اوبزرفاتور» ربيع 1968، وفيه أثنى على زعيم انتفاضة الطلبة، آنذاك، دانييل كوهين ـ بندي. وفي العام نفسه سافر جينيه الى الولايات المتحدة بدعوة من مجلة «اسكواير»، وأعلن تأييده لحركة الفهود السود التي تدافع عن حقوق الأميركيين من أصول أفريقية. وفي عام 1970 قابل ياسر عرفات ووعده بتقديم الدعم للقضية الفلسطينية. وبفضل اهتمامه بالفلسطينيين كان واحداً من أوائل الغربيين الذين دخلوا الى مخيم شاتيلا بعد المجزرة التي نفذتها الكتائب فيه عام 1982. وكان من نتاج تلك الجولة نص كابوسي بعنوان «أربع ساعات في شاتيلا».

كان جينيه مريضاً عندما عاد، للمرة الأخيرة، الى الاردن عام 1984 ودأب على كتابة «أسير عاشق». وفي الخامس عشر من أبريل توفي في غرفة صغيرة بفندق باريسي، حيث كان يصحح مسودات الكتاب. ودفن في بلدة العرايش المغربية، مقابل البحر في البلد الذي أحبه وعاشر أهله.

في محترف جياكوميتي

هذه الحياة المضطربة والخلاقة عادت الى النور في هذا المعرض بفضل التعاون بين القائمين عليه من جهة، والمكتبة الوطنية الفرنسية و«دار غاليمار» للنشر ولوران بويير، المسؤول عن تنفيذ وصية جان جينيه، من جهة اخرى. وتمت استعارة مخطوطات رواياته مثل «أسير عاشق» التي نشرت بعد أشهر من رحيله، بالاضافة الى عرض كتابات غير منشورة له عن القضية الفلسطينية كتبها خلال السبعينات، ونسخة من سيناريو فيلم «انشودة حب»، ومقالات وبحوث كثيرة، مثل الرسائل التي بعث جينيه بها الى صديقه النحات جياكوميتي، ولوحات رسمها له هذا الفنان، وغيرها من الرسوم التي خططها له جان كوكتو أو ليونور فيني أو الممثل جان ماريه.

وكان جينيه قد خالط الفنانين وكتب عن الفنون التشكيلية، في الخمسينات من القرن الماضي، نصوصا لم تحظ بالشهرة التي لاقتها رواياته ومسرحياته.

وكان يومها يتردد على مشغل جياكوميتي ويمضي معه حصصاً للرسم كان من حصيلتها أن أنجز له الفنان أربعة تخطيطات وثلاث لوحات. ويعرض متحف تور ثلاثة من هذه الأعمال، بينها واحدة كبيرة من مقتنيات مركز جورج بومبيدو، استغرقت من جينيه أكثر من أربعين يوماً من الجلسات المتواصلة التي كتب عنها يقول في إحدى الرسائل الى الفنان: «سآتي قريباً ببدلتي الرمادية الفاتحة لكي تكمل لوحتك الرائعة. وكلما فكرت في رسمي هذا وفي تحولاته اليومية العجيبة ازداد اضطرابي».

وكان من نتيجة تلك التجربة أن كتب جينيه عام 1957 نصاً في ثلاثين صفحة بعنوان «محترف البيرتو جياكوميتي»، هو بمثابة «حوار بين عزلتين»، وتلمس لأسرار العملية الابداعية في الرسم، وتعبير عن محبة جينيه للرسام الوحيد الذي استحوذت أعماله على إعجابه.

استمع إلى صوت جينيه

والى جانب كل هذا، هناك صور جاءت من أرشيفات عديدة ومجموعات خاصة، وأفلام فيديو، وعدد من الوثائق حول الالتزام السياسي لجان جينيه، وبالأخص وقوفه الى جانب الفلسطينيين ومناصرته للفهود السود في أميركا.

ويمكن لزائر المعرض أن يستمع الى تسجيل صوتي لجينيه وهو يقرأ صفحة من كتاب «يوميات لص»، وشهادات صوتية من تمارين مسرحيات، وأن يرى الأقنعة التي أنجزها اندريه أكوار لكي يرتديها الممثلون في مسرحية «عبيد».

وأصدر القائمون على المعرض مجلداً حوى مقالات للمتخصصين في أدب جينيه، بينها دراسة لألبير ديشي عن أثر معسكر «ميتراي» في أعماله وأخرى لكاظم جهاد حول ترجمة «أسير عاشق»، وثالثة لكريستوف بيدان بعنوان «جينيه، سارتر، ودريدا».

هذا بالاضافة الى أبحاث عن علاقة جينيه بمختلف أنواع التعبير الفني، وشهادات لأصدقاء ومساعدين عرفوه عن قرب هذه الشخصية التي يصفها دليل المعرض بأنها «أحد أكبر الكتّاب في القرن العشرين ووجه رئيس من وجوه الأدب الحديث، يعجز أي تكريم عن الاحاطة به».