المسرح أفضل السبل لتجفيف منابع الإرهاب

من أوغندا إلى أمستردام فنانون يحاولون حلّ النزاعات بالإبداع

TT

لا تتوقف نشرات الأخبار عن ضخنا بأنباء الحروب والنزاعات، وتزويدنا بتفاصيل وافية حول أنواع الأسلحة وأعداد الجيوش، إلا أن أبطال الصراعات في النهاية، يبقون طي النسيان، ولا يتحدث أحد عما يعيشونه من آلام وخيبات أو مشاعر عدوانية، تحول دون مصالحتهم مع ذواتهم والآخرين. وهذا حقل غني للفنانين المسكونين بالبحث عن السلام ومساعدة الناس في بحثهم عن حياة أفضل. فماذا قدم المسرحيون لضحايا الحروب، وهل نجحوا في مهماتهم؟

هل كان للمسرحيين العرب من دور يذكر في التخفيف عن الضحايا، والمنطقة العربية تمور بالنزاعات والصراعات المسلحة؟ على هذين السؤالين وغيرهما الكثير، أجاب المسرحيون الذين اجتمعوا في الخرطوم، أثناء منتدى فكري عقد أخيراً، تحت عنوان «المسرح في مناطق النزاعات»، وانتهزنا الفرصة لنطرح أسئلتنا بدورنا حول هذا الموضوع، وأجاب كل منهم، من خلال تجربته الخاصة.

غنام غنام، المخرج المسرحي الأردني، قال: «الفنون فى رأيي هي الوسيلة الأولى لتجفيف منابع العنف والإرهاب. لا يوجد إرهابي فنان أو ممثل أو موسيقي. ورفع الذائقة الجمالية لدى الإنسان يحيله من مشروع إرهابي الى مشروع إنساني إيجابي. لقد كان عام 1967 مفصلا، في الحياة المسرحية الفلسطينية، فقدم الراحل هاني صنوبر مسرحية «فل قمر» لشتاينبك التى طرحت مقاومة الاحتلال النازي، وكانت هناك فرقتان هما «بلالين» و«دبابيس» اللتان أفرزتا مسرح الحكواتي، وقامت إسرائيل بإغلاق المسرح قبل العرض لأنه يعتبر مسرح مقاومة. وقدم محمد البكري مسرحية «المتشائل» عن النص الرائع لإميل حبيبي. وهناك «سداسية الأيام الست» التى وصفت ما حدث عام 1948، وعرضت بثلاث لغات، وقدم أحد العروض فى بيت للمسنين بتل أبيب. وكنت شاهدا عندما بكى المستوطنون الأوائل خلال العرض ندما على ما فعلوه بالفلسطينيين. على المستوى العربي هناك مسرحية «حفلة سمر» لسعد الله ونوس، ومسرحية «عرس الدم» لخالد الطريفي فى بداية حرب الخليج الأولى، ثم «خماسية الحرب والحب» تتناول العراق تحت الاحتلال، ولسليمان البسام مسرحية «ذوبان الجليد» تتناول انتهاء المعركة بين الأخوة الأشقاء في المنطقة العربية. أما في لبنان فلزياد الرحباني مسرحية «نزل السرور» التى وصفت كيف يدير اللبنانيون صراعهم، وكانت المقولة «لقد تفرق اللبنانيون فى الطوائف وتوحدوا فى مملكة الرحابنة». ويضيف د.غنام غنام قائلا «ولي مسرحية من الصنف المقاوم اسمها «البحث عن حنظلة»، استنطقت فيها كاريكاتير ناجي العلي. هذا بعض ما قدمه المسرح للمقاومة. فالمسرح فى رأيي فعل حياة، والنزاع فعل موت».

بريطانيا من تصدير النزاعات إلى استيرادها

وللباحثة جين هوجز من بريطانيا رؤية مختلفة للمسرح، فقد بدأت الاهتمام بمسرح النزاعات بعد تفجيرات لندن الأخيرة، لأن بريطانيا التى كانت تصدّر الصراعات أصبحت مستوردة لها، هذا غير تفجيرات آيرلندا وأحداث سبتمبر (ايلول). لذا ذهبت هوجز الى مناطق كسيريلانكا وعاشت لمدة عام بين المجموعات المتناحرة، وتناولت قضايا اللاجئين بمنطقة مانشستر، فكانت تذهب إليهم وتقوم بمقابلات وتستمع الى شكواهم وتجاربهم التى عاشوها إبان الحرب، وبكاميرا خفية تقوم بتصوير اللاجئين الجدد ودهشتهم عند وصولهم الى مانشستر للمرة الأولى ورؤيتهم كيف يعيش العالم الأول فى أمن وسلام وازدهار. وكانت بالنتيجة مسرحية شهيرة عرضت في لندن بعنوان «هناك شيء أريد أن أريه لك»، للكاتبة أليسون جيفرس، تحكي قصة حقيقية عن لاجئ إيراني يدعي «إسرافيل شيري»، قام بحرق نفسه عندما رفضت السلطات البريطانية طلب اللجوء الذى تقدم به، وقام بأداء المسرحية ممثلون محترفون بمشاركة لاجئين شهدوا الحادث بأعينهم. هذا نوع من المسرح يسمي «الفيرباتيم». وهو مسرح يعتمد على القضايا العامة، وتسجيل شهادات حقيقية لأناس عاشوا الأزمة التى يبرزها العمل. وهو نموذج أصبح بارزا فى المسرح السياسي في بريطانيا خصوصا بعد احتلال العراق.

المسرحيون يدربون الأهالي على فبركة الحلول

وبما أن لأفريقيا تاريخا زاهرا في الصراعات القبلية، فقد كان للباحثة الأوغندية في مجال مسرح السلام بجامعة كمبالا، د.جيسيكا أكاهوا، عملان مسرحيان بعنوان «أصداء السلام»، و«تهشيم الأسطورة»، وفي حديث لها مع «الشرق الأوسط»، تقول: «17 عاما قضيتها في أبحاث السلام، ومن خلال أعمالي المسرحية قمت بتحليل الصراعات الأفريقية وتوصلت لنقاط هامة أتمنى أن تهتم بها في المستقبل الأعمال الفنية، وأهمها تدريب المسرحيين للعمل مع المتضررين فى مناطقهم، ومساعدتهم على حل مشكلاتهم». لأن الناس أو الأهالي ـ برأي جيسيكا ـ هم أفضل مهندسين لأقدارهم، ويجب أن يتحملوا مسؤولية الوصول الى السلام بمبادراتهم الخاصة. «فالتدخلات الخارجية لفرض حلول للنزاعات، كما يحدث في الدول الأفريقية لا تثمر سلاما طويل الأمد، وهي كمساحيق التجميل توضع على الوجوه ولكن عند أقل جهد ينهمر العرق ويزيح الألوان لتظهر الحقيقة. لذا فإن العودة الى دواخل النفوس هو الأساس لإنهاء الصراعات، كما أنادي بالعودة الى التقاليد الأفريقية التى تسود فيها قيم التسامح والغفران. وقبل كتابة مسرحياتي أقوم بزيارة المناطق المتأججة لأعرف القصص، وأطلب من الناس تذكر آخر حدث وقع قبل أسبوع من اندلاع النزاع، وأقوم بتسجيله وأضمنه المسرحية. وبنهاية العرض المسرحي، أستنطق المتفرجين عما تعلموه من العرض وماذا استفادوا. فالمسرح بالنسبة لي وظيفة تربوية...».

وللفنان السوداني علي مهدي، مسرح خاص أسماه «مسرح بين الحدود»، استقاه من تجربته بمدينة ملكال بجنوب السودان، بعد انتهاء الحرب الأهلية وزيارته لمعسكر خاص بتقديم المساعدات الإنسانية، ومحاولته إعادة الروح المدنية بين المتحاربين اليافعين ودمجهم فى المجتمع. ويقول علي مهدي إن المتنازعين كانوا بداية يأتون لمشاهدة أعماله في مجموعات متفرقة، لا يأكلون مع بعضهم، لا يتكلمون، بل يظلون واقفين، لا يجلسون على الأرض، ولكن بعد عدة محاولات لإلقاء الشعر والأغاني والقيام بعروض مسرحية، قام خلالها بدمج ثقافات المجموعات المتحاربة في محاولة لتوحيدهم على خشبة المسرح، بدأ المتحاربون ينسجمون ويندمجون تدريجيا مع بعضهم البعض. وفي رأيه أن الفنون هي التي تنجح في إزالة الضغائن وعبور الحدود وإعادة توحيد شمل الناس وبناء السلام.

حرب الرجال والنساء يناسبها المسرح

ويبدو أن للعالم الأول صراعات أيضا، ولكن من نوع آخر. فالبروفسور ميكا كولك، أستاذة المسرح بجامعة أمستردام تقول: «هولندا بلد آمن، ولكن هناك نزاعات خفية أو حرب بين الرجل والمرأة رغم كل مظاهر التطور والانفتاح. فالسيطرة الذكورية في كل مناحي الحياة، دفعت مجموعة من النساء الفنانات في الثمانينات، للقيام بتظاهرة مسرحية أنثوية تحمل شعار «القناع والواقع»، وقمن بقص ما في دواخل النساء من معاناة، وحاولن نقد السيطرة الذكورية في الأعمال المسرحية، وتناولن شخصيات شكسبير الكلاسيكية وهاجمنها بطريقة ساخرة كما قمن بتغيير النهايات الدرامية لتلك الأعمال. وتقول: «يمكننا استنطاق أي إنسان ليحكي ما بدواخله من تجارب أليمة، سواء كان ضحية لحروب أو نزاعات أو اضطهاد، كم يمكننا أن نصنع من الحزن، أشياء غير متوقعة! عندما تهطل الدموع يزول الألم الداخلي، ويبدو الإنسان أكثر انفتاحا ويبدأ بالنظر إلى الأمام».

«الفنانون لا يستخدمون عبارة أنا لديّ عدو، بل يقومون بعرض الواقع ومناقشته من خلال مرآة المسرح»، كما عبر مدير المعهد الدولى للمسرح ببرلين، المشارك بهذا المنتدى، ويضيف قائلا: «وبما أن النزاعات تجيء من رفض الآخر المغاير فكرا وثقافة، فقد نظم المسرحيون بشتوتجارت مهرجانا باسم «الاحتفال بالاختلاف» في العام الماضي، اجتمع فيه الفنانون من دول كثيرة وتقاسموا العيش معا لمدة خمسة أسابيع للتعود على اختلاف الثقافة والدين واللغة، ومن ثم يعكسون هذه الروح في أعمالهم. فالاختلاف الذي يراه الناس قنبلة موقوتة للصراعات، يراه الفنانون مفجرا للإبداع والطاقات!».