مصممون استطاعوا أن ينفخوا الروح في الصناعة التقليدية المغربية

مقاعد تذكّر بحرب النجوم وأنوار تتلوى كأفعى

TT

خرجت الفنون التعبيرية كالتجهيز والنحت والفيديو والتصميم، من عتمات الهامش منذ بداية التسعينات، بعدما ظلت الفنون التشكيلية الكلاسيكية مهيمنة في المغرب هيمنة مطلقة. غير أن هذه المقاربة الأحادية بدأت تتكسر على يد فنانين مغاربة نهلوا من دينامية الحداثة العالمية وكيفوها مع ثراء الهوية الثقافية المغربية المتعددة.

أصبح التصميم الفني اليوم نمطا جديدا للحياة، يكسب المجتمعات التي تفرد فضاءات عضوية له، رؤية استشرافية للعالم. لكن في المغرب ما زال هذا التعبير محتشما بعض الشيء، لا سيما أن القطاع الصناعي الذي كان يمكنه أن يحتضنه أشاح عنهم بوجهه وانخرط في مقاربة تجارية سطحية أدت به إلى الباب المسدود.

من هنا تأتي اهمية المعرض الذي أقامته «فيلا الفنون» من 9 فبراير إلى 2 أبريل، لمجموعة من المصممين المغاربة البارزين على الساحتين المغربية والدولية، وهم مصممون استطاعوا أن ينفخوا الروح في الصناعة التقليدية المغربية بمنحها فاعلية حديثة، في مجالات شتى من النجارة إلى توضيب الفضاءات الداخلية، مرورا بالحلي والأثاث والزخرفة أو الملابس. لذلك فأعمال جميل بناني، المتخصص في صناعة الخشب في بلجيكا، تضفي لمسة سحرية على وظيفة الأثاث بتفكيك المرجعية الديكورية وصوغها في تصاميم مستقبلية كأنها تأتينا من عوالم الفضاء الغريبة. فهذه المثلثات الخشبية المزروعة عموديا على السند تكشف لنا عن نظرية بديهية تتمثل في أن الفضاء الذي نسكنه ليس فضاء ميتا، بل هو عبارة عن فضاء جمالي تعمده المتعة البصرية والحسية ليصير معيشنا متجددا، يحتفي بالعين والفكر، على الدوام. نفس الروح عند الشابة ياسمين إيطوشان، أستاذة الهندسة الداخلية بمدرسة «آرت كوم» المعروفة بالدار البيضاء، التي تعدد وظائف الأثاث كخزانة الكتب ـ الهرم والأباجورة الزهرة المعدنية ـ المحارة. وهذا يفرغ الأثاث من الوظيفية الجوفاء التي تحايثه، وينتقل به إلى تلوينات جيولوجية، وسميولوجية جديدة تجعل الفضاء يفيض إشارات خلاقة.

أما عزيز الأزرق الذي فاز بالعديد من الجوائز الدولية فإنه وظف الهندسة المعمارية ليخرج بالديكور من نخبويته إلى أبعاد الوساطة الجمالية اليومية، إذ ابتكر كراسيَ تمزج بين غرائبية تصاميم حرب النجوم ووظيفية الأثاث المبدع الذي لا تمله العين أو الجسد. ولهذا اشتهرت كراسيه الفضائية التي تعطينا الانطباع بأننا على مقعد قيادة مركبة فضائية. كما أن التنويع في الألوان المنسجمة مع التصميم المبتكر زادها بهاء ورونقا. من جهة أخرى، استطاع كريم الطاسي، مصمم الازياء والزخرفة، أن يطعم تصميماته للأثاث بشيفرات ثقافية خارجية تعودنا على تحليلها من الزاوية الإشكالية ككنباته العسكرية التي غلفها بشجيرات وبقع الألبسة العسكرية التي تستعمل للتمويه في الغابات ليعطيها نفحة مسالمة وجمالية فريدة، بدون أن ننسى العلامات التزينية التي نجدها في الصناعة التقليدية التي هاجرت على يديه لتستقر في مقاعد جلدية متميزة. هذه القراءة الإبداعية للديكور نجدها أيضا عند المصممة صوفيا التازي التي دأبت على تأنيث الفضاءات الداخلية للبيت بتغليفها بمسحة انسيابية عميقة نراها، مثلا، في حركية الأفعى التي تسم بها النور الذي يمر عبر أباجورة سلكية بعدة رؤوس استيهامية تتلوى دلاليا لتدفئ الجدار المعلقة عليه أو الأباجورة الشجرة الثلجية التي تزين غرفة النوم. هذا التقاطب السيميولوجي بين البارد والحار، تاناتوس والإيروس، هو الذي يميز عميقا عمل هذه المصممة الشابة.

كما يأخذ الزي والحلي حظهما في هذا المعرض حيث تبدع أنامل منية البرنوصي حليا مصنوعة من الفضة المذهبة المزينة بأحجار شبه ثمينة جاءت من إفريقيا وآسيا أو أستراليا، لها تركيبات لونية مختلفة: حمراء، لازوردية، خضراء، بيضاء، تزينها عيون سحيقة تفتح علينا من الأزمنة الغابرة. مثلثات مخططة، أشكال بيضاوية، تحلم بها المصممة وتصنعها مع الحرفيين أهل السر. هذه الأشكال تخلق أجواء أثيرية تحيل على العوالم اللانهائية للحلم والخيال المجنح للمادة الأنتروبولوجية النادرة. والحال أن هذه الشعرية الجديدة، التي تقدم الموضة بشكل غير متوقع، نجدها أيضا عند الشاب سعيد فشتال الذي يبتكر خارج كل أكاديمية كلاسيكية حليا وأزياء يتقاطع فيها التشكيل والتصميم المستقبلي. وفي هذا الصدد، تشتهر أحزمته الجلدية ذات الخياطة اليدوية والرؤوس النحاسية التي تتناغم فيها أربعة شخوص رافعة يديها إلى السماء كأنها تبتهل، وقلاداته التي تعتمد على محارات البحر في تركيبها، وتصاميم شبكية تجعل منها بشرة أخرى تسدل من دون حرج على البشرة الأولى.

يضعنا هذا المعرض في عمق رهان الثورة الصناعية في المغرب التي يمكنها أن تستفيد من التراث الهائل للثقافات التقليدية المغربية، باستعمالها بشكل إبداعي في بلورة صورة جديدة للتصاميم الفنية التي تأخذ على عاتقها إنقاذ عالم المقاولة من بؤس الخيال الصناعي الذي تغط فيه. كما أن إبداع هؤلاء المصممين استطاع أن يؤهل الصناعة التقليدية المغربية ويجعلها تدخل إلى العالمية من بابها الواسع ويعيد الاعتبار للمهن اليدوية الآيلة إلى الاندثار. لذلك فالتصميم الفني أصبح ضرورة ثقافية لاستباق الأذواق والحساسيات الجديدة والمبتكرات سواء في الأثاث، اللباس، الحلي أو الهندسة الداخلية للفضاءات، بغية ولوج الحداثة عن جدارة واستحقاق إبداعيين. ألم يقل المصمم الكبير فيليب ستارك:«التوقع والاستشراف واجب على الجميع».