أرنستو نيتو أحد أبرز رواد الفن الحديث يستولي على حواس السويديين

متاهة بيضاء وجمهور مسحور بالتأمل عن طريق اللمس

TT

أن تستقبل قاعة «كونست هال»، في مدينة مالمو السويدية، معرضا للفنان البرازيلي أرنستو نيتو، فهو حدث فريد من نوعه، لا بسبب غرابة العرض المدهش والساحر الذي يقدمه نيتو، وحسب، بل لأنه أيضا يشكل فرصة للجمهور الواسع للاطلاع على واحدة من أهم تجارب الفن الجديد في العالم.

حظيت تجربة أرنستو نيتو، منذ سنوات، باهتمام لافت من قبل نقاد الفن وأصحاب القاعات الفنية والمتاحف في امريكا، وبالاخص في نيويورك، حيث يقيم.

فالمشاهد، مع نيتو، لا يرى لوحات معلقة على الجدران ولا يدور حول كتل نحتية، بل يجد نفسه في قلب العمل الفني، مع أول خطوة له في القاعة. وهي خطوة تجره الى متاهة بيضاء يصنع دروبها الفنان، مستعينا بمئات الامتار من القماش، المادة التي برع في استعمالها لصياغة أشكاله الشفافة. تلك الأشكال التي تذكر بواقع متخيل ولا تحيل الى الواقع، وهنا يكمن سر اللعبة التي تميزت بها عروض نيتو. فأشكاله الهلامية الضخمة لا تقطع صلتها بمصادر الهامها نهائيا، غير أنها في الوقت نفسه لا تضع تلك المصادر في متناول العين مباشرة، لا تخفيها ولكنها تتماهى مع سعتها المتخيلة، تذهب بها إلى اقاصي ممكناتها الجمالية. وبسبب ضخامة تلك الأشكال، فإن المتلقي غالبا ما يقع ضحية لأوهام بصرية متلاحقة. فنيتو يحرص على ألا يرى المشاهد العمل الفني بأكمله، حين يسليه بالأجزاء التي تطلق حساسية جمال محلقة، جمال هو في طريقه الى الغياب، في كل لحظة نظر. كل شيء لدى هذا الفنان مؤقت مثل مواده التي يخشى منظمو معارضه عليها من أن تتسخ بسبب فضول المشاهدين الذي يدفعهم الى لمسها. هناك اذن ما يلهي المشاهد عن رؤية جسد العمل الفني كاملا، التفاصيل، فحين يمد يده الى جزء من العمل، وحين تتردد أصابعه عن القيام بذلك الفعل وحين يشعر بالحيرة وهو يقف أمام تقاطع طرق داخل العمل الفني وحين تتوزع نظراته التائهة بين الجهات، لابد أن يشعر ذلك المتلقي بانقلاب في ذائقته الجمالية وأسلوبه في النظر الى الأشياء. وكما ارى، فإن نيتو وسواه من رواد الفن الجديد، انما يشملون هذه التحولات المزاجية برعايتهم، بصفتها هدفا غالياً يسعون اليه من خلال الفن.

لا يهتم ارنستو نيتو بتوسيع قاموسه من المفردات الشكلية. ينحصر اهتمامه بمقاربات خيالية لاشكال واقعية. أقدام حيوانية وجدران مرنة وزئبقية وخيام ممزقة وقمصان وشبكة عنكبوتية من الحبال وسقوف متحركة، وكل هذا يصنعه من قماش شفاف، تكاد رقته أن تهبه معنى العدم. الاشكال التي يقترحها نيتو لا تعيدنا الى ما نعرفه، بل تتقدم بنا في اتجاه ما لا نعرف من حياة هي في طي الكتمان. إنها لا تذكرنا، بل تستأنف بنا خطوة في حياة هي في طريقها الى التشكل. «لا يكفي النظر»،هذه الجملة تحتاجها أعمال نيتو بل أنها تقترحها همسا. فتامل تلك الأعمال يؤدي إلى فوضى عظيمة في الحواس، من يسبق من هناك اليد التي تلمس وتحس، والعين التي ترى وتفكر، والاذن التي تنصت وتهفو، غير أن مزيج هذه الحواس، لا بد أن يؤدي إلى شيء آخر، شيء يعرفه التأمل بصفته واحدة من درجات صفائه المدهش وهو حجته في تفرده الصارم عن كل ما يقود اليه. من يخترق عملا لنيتو يكون كمن استخرج من اعماق نفسه المواد التي يعالج بها اختلاطات مزاجه النافر. تبدو فكرة المطهر هنا، كما لو أنها صنو الصنيع الفني. فذلك الصنيع يزودنا بقوة خيال مضافة نستطيع من خلالها اكتشاف دروب محتملة، دروب تضع أمام خطواتنا سبلا متباعدة ومختلفة للخلاص. ما نكون عليه بعد نيتو لا يعيدنا إلى ما كنا فيه قبله. الهواء (وهو عنصر بناء مهم لدى هذا الفنان) يمتلئ أشباحا صديقة. صحيح أن نيتو من خلال متاهاته لا يضع حدا لضياعنا بقدر ما يؤكد ذلك الضياع، غير أننا نعثر في أعماله على الفضاء الذي يحنو على ضياعنا بصفته فكرة نبل ونبوءة اختلاف.

ارنستو نيتو (ولد عام 1964) لا يرسم ولا ينحت، الآن على الأقل، غير أنه يمارس الفنين معا بعبقرية الخيال البصري. انه مولع بصنع فضاءات منغمة من القماش، لا توحي بنهاية ما. ما نحمله منها معنا، يذكرنا بها مثلما تفعل المشاهد التعبيرية لـ«مونخ» أو السوريالية لـ«ماغريت» أو الواقعية لـ«هوكني»، غير أنها لا تعيدنا الى مشاهد بعينها، بل تطلقنا في رخاء شعري لا يرعى المعاني بقدر ما يحرص على أن يستخرج من أصواته موسيقى تذهب به الى الاقاصي. أعمال نيتو تدعونا الى أن نفارقها إلى ما تبشر به: الحياة بصفتها أفقا مفتوحا على المفاجآت السارة والمبهجة. الفن بالنسبة لهذا الفنان لعبة مرحة، لعبة تعيدنا إلى الطفولة بخطى البالغين المرتبكة.