عن التسامح الإسلامي وتعريفات الهوية الإنسانية القاتلة

آمارتيا سين الخبير الاقتصادي والحائز جائزة نوبل يحتفي بتعددية الولاء الإنساني

TT

يرى مؤلف هذا الكتاب، آمارتيا سين، الخبير الاقتصادي والحائز على جائزة نوبل، حدا فاصلا بين الغرب وبقية العالم. ويقول انه ليس هناك شيء غربي متميز حول الديمقراطية، فهي لها جذور كونية. وفي هذا السياق يقول ان للديمقراطية تجارب سابقة في كل من الهند والعالم الاسلامي «في الوقت الذي كانت تنتشر فيه محاكم التفتيش في اوروبا ويُحرق فيه المهرطقون». هنا وجهة نظر لا تتطابق بالضرورة مع بعض ما طرحه سين في كتابه الجديد المعروض هنا.

والنقاش مفتوح حول هذا الموضوع الهام.

آمارتيا سين، الخبير الاقتصادي والحائز على جائزة نوبل، يسافر هذه الايام كثيرا حول العالم. ولكن القضايا التي يتناولها خلال حركته هذه نادرا ما تكون متعلقة بالاقتصاد، وإنما تركز على عدد من القضايا السياسية والاجتماعية التي لا تتعلق كثيرا بعمل الاقتصاد. يبدو آمارتيا سين فرحا وعلى استعداد لرؤية الافضل في الآخرين.

في هذا الكتاب الاستطرادي، الذي ينتقل من موضوع إلى آخر، يكمن ظل زميل آمارتيا سين في هارفارد، أستاذ العلوم السياسية صامويل هنتينغتون بنظريته «صراع الحضارات». يتخذ آمارتيا سين دور المناوئ لهنتينغتون، إذ ينظر الى أطروحته حول النزاع الثقافي كونها تفضي الى منهج أحادي الجانب للهوية الانسانية وتقود الى «تجزئة العالم حضاريا ودينيا»، وهو وضع يمكن ان يؤدي الى قدر أكبر من الاضطراب وعدم الاستقرار الكوني.

آمارتيا سين من جانبه، يحتفي بالطبيعة المركبة للهوية الانسانية، ويقول في هذا السياق «ان نفس الشخص يمكن ان يكون مواطنا اميركيا، من اصل كاريبي، يتحدر جدوده من القارة الافريقية، ويعتنق المسيحية، وليبرالي التوجهات، ونباتياً، وعداء مسافات طويلة، ومؤرخاً، ويعمل مدرسا، وكاتب رواية، ويؤمن بحقوق المثليين، ويحب المسرح، وناشطاً في مجال حماية البيئة، ومن جمهور لعبة التنس الارضي، وموسيقي... الخ».

يقول سين ان الهوية الحضارية لشخص لا تمثل بالضرورة مصيره، ويعتقد ان عالمنا الراهن اصبح «أكثر قابلية للاشتعال» بفعل تعريفات الهوية الانسانية بدلا عن النظر الى الجوانب المتعددة والمختلفة التي تشكلنا كبشر.

اعتقاد سين في تعددية المزاعم حول الولاء الانساني أمر يبعث على الإعجاب، لكنه لا يقوى على الوقوف في مواجهة غضب المؤمنين الحقيقيين. ربما تكون لنظرة هنتينغتون في عالم اليوم قوة أكبر، إذ ان رسمه لخارطة الحضارات كان بصورة اكثر حدة. وربما يكون غير مبال بجاذبية الحداثة على اسس ثقافية، لكنه انتج عملا هائلا، كما ان هنتينغتون لم يفشل في النظر الى الشروخ والانقسامات في مجتمعات محددة، إذ اشار الى مجموعة «الدول المنقسمة»، في اشارة الى بلدان مثل تركيا وروسيا والمكسيك، حيث التحدي والتنافس الشرس فيما يتعلق بمسألة الولاء والهوية. يمثل آمارتيا سين نتاجا للتعليم الغربي (البريطاني)، لكنه لا يرى حدا فاصلا بين الغرب وبقية العالم. يقول إنه ليس هناك شيء غربي متميز حول الديمقراطية، فهي، كما يقول، لها جذور كونية. وفي هذا السياق يقول ان للديمقراطية تجارب سابقة في كل من الهند والعالم الاسلامي «في الوقت الذي كانت تنتشر فيه محاكم التفتيش في اوروبا ويُحرق فيه المهرطقون».

أما الحجة الاكثر إثارة للجدل لدى سين في هذا الجانب، فتتلخص في نظرته للإرث الديمقراطي كمشروع عالمي ويرى انه ليس للغرب حقوق ملكية للأفكار الغربية. وفيما يرى ان «الأشكال المؤسسية الحديثة للديمقراطية جديدة نسبيا، يعتقد ان تاريخ الديمقراطية في شكلها المتمثل في المشاركة الشعبية منتشرا في العالم». ويقول ان الممارسة الغربية لم تكن، إذاً، «معزولة»، ولم تتطور في «عزلة رائعة».

ان قلق بعض المسلمين وعنف بعض من المتطرفين منهم ، هو الذي منح سؤال الهواية صيغته العالمية المعاصرة. وكان هنتينغتون هو اكثر المفكرين تنبؤاً بذلك، عندما كتب عن «الحدود الدموية» و«ظاهرة الانفجار السكاني بين الشباب» في المجتمعات الاسلامية التي أدت الى انتشار الراديكالية في العالم الاسلامي. وقد كتب ذلك في التسعينات، ثم قدمت احداث 11 سبتمبر وما تلاها الدليل القاسي لمقولته.

ولذا فإن سين، يتمنى إنقاذ الإسلام من هذا «القيد». ويمضي في طريقه عبر التاريخ الاسلامي وجغرافيته الواسعة لكي يعثر على ممارسين اسلاميين للتسامح وفترات التنوير الحقيقية. فهذا الامبراطور المغولي العظيم اكبر الذي «اصر في عام 1590 على ضرورة الحاجة للحوار والاختيار الحر، ورتب مناقشات متعددة لا تضم فقط المفكرين المسلمين والهندوسيين الاساسيين، ولكن تضم ايضا المسيحيين واليهود والبارسيين (زرادشتيون منحدرون من أصلاب اللاجئين الفرس المقيمين في بومباي وغيرها) واليانيين (اتباع اليانية، وهي دين هندي نشأ في القرن السادس ق.م. وقوامه تحرير الروح بالمعرفة والإيمان وحسن السلوك)، والملاحدة». وفي مواجهه معاداة الإسلامية الراديكالية للسامية، يقدم سين امثلة على الحكم الاسلامي في قرطبة وشبه جزيرة ايبريا ـ خلال عهد LA CONVINCIA (التعايش) حيث ازدهرت الحضارة الاسلامية اليهودية في البلاد، والأدب والفلسفة ازدهارا حقيقيا.

ويقدم سين بعض الامثلة: فتاريخه «المعلب» معد للحوار بين الاديان. ويكتب عن الفيلسوف اليهودي العظيم موسى بن ميمون، الذي، عندما اجبر على الهجرة «من أوروبا المتعصبة» في القرن الثاني عشر، تمكن من «العثور على ملجأ متسامح في العالم العربي» في بلاط صلاح الدين. ولم يفر ابن ميمون المولود سنة 1153 من «أوروبا» الى «العالم العربي»: بل فر من بلده قرطبة في اسبانيا، التي كانت آنذاك تعيش وسط ارهاب ديني سياسي، تحت حكم اسرة الموحدين البربرية المسلمة، التي عملت على التخلص من كل ما تبقى من سياسة التسامح وجعلت حياة يهود اسبانيا و «الروح الحرة بين مسلميها» جحيما مطلقا. وفر ابن ميمون واسرته من نيران دويلات الطوائف في شبه جزيرة ايبريا الى المغرب ثم الى القدس. وكانت المغرب تعيش في ظلمات ورعب هي الاخرى، كما كانت القدس تعيش في ظروف معادية هي الاخرى في عهد ممالك الصليبيين. وكان الخلاص في القاهرة فقط ـ الاستثناء وليس القاعدة ـ حيث حافظ صلاح الدين، المتنور، على السلام الاجتماعي فيه.

وفيما يلي، لصالح سين، فقرة من رسالة رعوية من ابن ميمون الى اليمن «قلوبنا ضعفت، وعقولنا مشوشة، وقوتنا تلاشت لأن سوء الحظ الذي لحق بنا على شكل الاضطهاد الديني في نهايتي العالم: الشرق والغرب». كانت جغرافية ابن ميمون اسلامية: كان الشرق في الانجيل هو اليمن، الذي كان منطقة معارك بين السنة والشيعة، المكان الذي تعرض فيه اليهود الى الاعتناق الجبري للاسلام، وكان الغرب هو اراضي الاندلس المحترقة، حيث كان محاربو الموحدين يماثلون، بكل الطرق طالبان عصرهم، وهم سلف المتطرفين الدينيين في العالم الاسلامي. ووضعوا عالم الاندلس الاسطوري تحت الاختبار، وشاهد شباب الموحدين انهيار هذه الحضارة. لقد كان هناك نعيم اندلسي وحكام مسلمون لديهم رجال بلاط وشعراء يهود، وفلاسفة يؤمنون بسيادة المنطق، غير ان هذا العالم احترق.

* خدمة «واشنطن بوست»

(خاص بـ «الشرق الأوسط»)