محمد علي.. الفرعون الأخير؟

ولد في العام نفسه الذي ولد فيه نابليون وظل طوال حياته يسير على خطاه

TT

هذا السفر الضخم (513 صفحة من القطع الكبير، إضافة إلى مائة صفحة أخرى من الوثائق والهوامش، وأصدرته وزارة الثقافة السورية، بمناسبة مرور مائتي عام على قيام دولة محمد علي في مصر عام 1805)، لا ينقصه التشويق، والجذب، وفي وسع القارئ أن يطالعه كرواية، أو كخليط من التاريخ، والرواية معا، كما أن له أفضيلة الإطلاع على المئات من وثائق الخارجية الفرنسية، والبريطانية، والألمانية، بالإضافة إلى استعانته بمذكرات السياسيين الفرنسيين، وغيرهم ممن عاصروا الحملة الفرنسية على مصر، من جهة، وأولئك الذين عايشوا تجربة محمد علي، مشاركين، أو دبلوماسيين.

وجه مؤلف هذا الكتاب تأريخه في اتجاهين: أولهما سرد سيرة محمد علي، منذ مشاركته في الأسطول العثماني الذي حط مراسيه على شواطئ مصر عام 1801، من أجل مواجهة الجيش الفرنسي، وإرغامه على مغادرة مصر، بالتعاون مع الجيش الإنجليزي، وحتى لحظة موته في الثاني من اغسطس (آب) 1849. والثاني إيضاح الدور الفرنسي في مساعدته على إرساء معظم مشاريعه السياسية، والعسكرية، والعمرانية، والتعليمية، التي أراد تنفيذها من أحل بناء دولته.

والمؤلف هو «جيلبير سينويه»، وهو فرنسي، ولد في القاهرة عام 1949، وحاز حائزة باعة الكتب عام 1966 على كتاب «الياقوت الأزرق» ثم نشر عام 1987 كتاب «الأرجوان وشجرة الزيتون» وفي عام 1989 «ابن سينا أو طريق أصفهان» ثم كتاب«النيل» عام 1993.

يبدأ سينويه كتابه بالإشارة إلى أنه إذا كان كل من نابليون بونابرت، ومحمد علي، قد ولدا في العام نفسه، فإن الثاني منهما ظل طوال حياته يسير على خطى الأول، بحيث أن الكورسيكي (يقصد بونابرت) سيصحبه طوال مدة حكمه، ويغشاه، أكثر من مرة، متى هبط الظلام في ممرات قصوره.

لا يتردد «سينويه» في وصف محمد علي بالعبقري، وتظهر عبقريته في رحلة صعوده من جندي صغير في الجيش العثماني، إلى باشا مصر، وحاكمها الأوحد، أو مالكها الأوحد. وقد اتبع خطة ميكيافيلية من أجل الاستيلاء على السلطة، خطوة وراء أخرى، عبر إنشاء تحالفات مؤقتة، يحقق فيها التقدم نحو السلطة، بعد سقوط الحليف، حين يشارك، في الخفاء، في تأليب الناس ضده. هذا ما فعله من أجل السيطرة على الجيش العثماني مثلا، أو التعاون مع المماليك، لامتصاص نقمة الشعب الثائر، إلى أن تمكن من استمالة سكان القاهرة. ولأول مرة في تاريخ مصر، يقوم رجال دين، وأعيان من أصل مصري، بتعيين رئيسهم، ويتدخلون مباشرة لدى مستعمريهم لحسابه، وذلك حين طالبوا السلطان بتعينه، قائدا للجيش. ولأول مرة أيضاً يشعر الإنسان المصري أنه في طريقه إلى التأثير في مصيره. لكن شعب هذه العاصمة، لم يكن يعرف، في أغلب الظن، حكاية الضفادع التي طلبت من جوبيتر ملكا لها، فلو أنها عرفته، فلربما كانت تحذر من الرغبة في التغيير. لماذا؟ لأن تاريخ إنشاء دولة محمد علي لم يكن مكرسا من أجل نهضة الشعب المصري، فلم يطمع «بالحداثة» إلا من أجل الجيش، ولم ينشئ المدارس إلا من أجل التعليم العسكري، ومن أجل الحصول على ضباط، ومديرين، وإداريين، لا من أجل تنوير الشعب المصري. غير أنه في سياق إنشاء المدارس العسكرية، سيجد نفسه مضطرا لإنشاء مدارس التعليم العام، خاصة حين شمل التجنيد أبناء الشعب، «فالجندي لن يكون ضابطا جيدا، إذا كان جاهلا»، غير أن التجنيد، والحروب التي خاضها محمد علي، لم تخلف الويلات، والمصائب للشعب فقط، وإنما أيقظت الشعور الوطني، فالجندي المصري «بات يجد للمرة الأولى أنه قادر على رد شيمة التركي، ذلك لأنه صار جندي محمد علي. وعلى مر الأيام» فإن الجيش الوطني يصبح الموئل الذي تتكون فيه هوية وطنية، وشعور قومي، يفسحان المجال لعصر النهضة. لم يكن محمد علي «واعيا» بالنتائج التالية، مما لا يشغل باله، أو لا يشكل هدفا مباشرا لإعماله، لكنه وجد نفسه أمام ضرورات لا مناص منها لبناء مشاريع، آلت فوائدها إلى الشعب المصري، دون أن يكون راغبا في ذلك. والدليل أنه فقد كل اهتمام بالتعليم العام، بعد مؤتمر لندن 1840، حين رأى أنه لم يعد بحاجة إلى جيش، فاستنتج أنه لم يعد بحاجة إلى مدارس.

وإذا كانت أنظار فرنسا ظلت معلقة بمصر بعد رحيل جيشها، فإن أنظار محمد علي ظلت تترسم خطى نابليون في إرساء السلطة، وفي إنشاء مؤسسات، لا يأخذ منها سوى الشكل، وفي الاستعانة بالخبرات الفرنسية، والمستشارين، في جميع المجالات. أشهر هؤلاء هو العقيد جوزيف سيف الذي اشتهر في التاريخ باسم (سليمان باشا) بعد أن أعلن إسلامه، وظل برفقة محمد علي، وابنه إبراهيم، حتى النهاية. وحين أنشأ المدرسة العسكرية، شحنت له فرنسا أسلحة التدريب، وكلفت لجنة عسكرية لدعمه، ونصحه. وفي عام 1833 عين الفرنسي (غيولمين) لإدارة منشأة لإنتاج الورق، كما أنشأ المدرسة العسكرية العليا، على شاكلة مدرسة سان سير العسكرية الفرنسية، وشكّل لجنة للتربية، كان فيها خمسة فرنسيين.

ويعزو المؤلف «اكتشاف القطن طويل التيلة» إلى مهندس فرنسي اسمه «جوميل» الذي اتفق مع محمد علي على حق زراعته، كذلك فقد زرع القنب في مصر بحفز من فرنسي اسمه «غرونويل»، وأقام مصانع لحلج القطن، وصناعة الجوخ، سلم إدارتها لفرنسيين. أما أول خطة لحفر قناة بين البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر، فقد وضعها فرنسي اسمه «لينان»، ولكن المشروع يؤجل، وتفتح بدلا عنه أقنية للري، أشهرها قناة المحمودية.

على إن أغرب فكرة يذكرها هي أن البعثة التعليمية التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا، وكان من بين أفرادها رفاعة الطهطاوي، وابنه إبراهيم، إنما كانت في الأصل فكرة فرنسية، سبقه إليها نابليون نفسه، حين احتل مصر، دون أن ينفذها. وتعبيرا عن امتنانه أهدى محمد علي فرنسا مسلة رمسيس الثاني، التي نصبت في ساحة الكونكورد، في باريس. كل هذه الإشارات شجعت كاتبة مقدمة الكتاب على أن تقول إن مصر محمد علي ليست بعيدة عن أن تكون محافظة فرنسية، مما يدفعنا للتساؤل عما إذا كان الكتاب تاريخا موضوعيا، أم تاريخا من وجهة نظر فرنسية!

لم تفشل تجربة محمد علي بسبب العيوب الداخلية وحدها، وإنما الفشل أيضا بسبب التحالف الدولي الذي قادته إنجلترا، بالتعاون مع روسيا والنمسا، وغيرهما، من أجل إسقاط مشروعه الكبير.

يقدم «سينويه» محمد علي كبطل روائي، ولا يتردد في إسباغ أي صفة يراها مناسبة عليه، تبعا لمواقفه وسياساته، فالرجل لم يكن مجرد طامح عسكري، عديم الرحمة، أو ثعلب بلا مبادئ، وإنما سيد حسن المجاملة، ومتسامح، عامل أهل الديانات السماوية بالمساواة، وأحسن فهم المنقبين الأوروبيين، واستمع إلى نصائحهم، من أجل الحفاظ على التراث الفرعوني المصري، ووفر لمصر عوامل نهوض، لم يمكنها التاريخ اللاحق من تحقيقها.