عولمة المقاومة أمام عولمة الفوضى

مأزق «المقاومات» العربية بين النظرية والواقع

TT

* يرى مؤلف هذا الكتاب، أن الولايات المتحدة وضعت العالم كله أمام اختيار صعب: إما نظام عالمي تنفرد بالسيطرة عليه، وإما التسبب بفوضى عالمية، مع العلم أن استخدام القوة أظهر محدودية القوة، وأن اختراع العدو الإسلامي بدلا من العدو الشيوعي السابق وفق مقولة نهاية التاريخ وصراع الحضارات لن يحقق لأميركا الغاية من استراتيجيتها.

* إذا كانت «الفوضى المعولمة» هي الاستراتيجية الأميركية التوسعية، لتعميم البلبلة والاضطرابات في العالم من أجل المحافظة على الاستقرار والازدهار في الأرض الأميركية وعزلها عن مشكلات الدول المأزومة وإبعادها عن منافسة الدول الطامحة، يكون مؤلف كتاب «عولمتان / الفوضى والمقاومة»، سركيس أبو زيد، قد صاغ بدقة المصطلح، وبدقة أيضاً يكون قد عنون كتابه، فعولمة الفوضى أداة لتحقيق الغايات وعولمة المقاومة رداً على ذلك.

لا تملك الأطراف التي تستبيح العولمة ثقافتها وأرضها وتراثها ومواردها وسيلة للرد إلا بالمقاومة. فما تملكه أميركا من القوة الزائدة جعل من مواجهتها عسكرياً انتحاراً. فالعالم يعيش العصر الأميركي على مضض، حتى الدول الكبرى المدججة بالأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل لا تقوى على مواجهة أميركا إلا بالتصاريح والتنديد.

لقد صاغت المقاومة أساليب مواجهتها بالتسليم بأنها لا تملك القدرة على المجابهة في ميادين أساسية عديدة منها الاقتصادية والعسكرية التقليدية. ولأنها الإثبات الكلي الوجود للاختبار الذي لم يتحقق بوسائل أخرى، فلا تحتاج تبريرا لأن شروطها فرضها العدو. وضرورتها لا تتمثل بما أنجزته، بل برغبتنا بما يمكن أن تنجزه، فبعد تحرير الأرض عليها واجب تحرير العلاقات القائمة بين المواطنين بتظهير مشهد تستخدم فيه الرؤية بشكل مفرط، أي بتصوير شامل لا بمشهدية مقطعة يعاد لحمها في مناسبات الدجل والنفاق الوطني، وفي حفلات الزجل التي خسرت جمهورها لصالح ساحات الحرية التي لن تنتج إلا مشهديات لتجمعات تعود إلى بيوتها الدافئة في المساء في حين يكون المقاوم مصلوباً على الخط الأزرق أو في مزارع شبعا التي يحاول الكتيرون أن ينكروا أبوتها فتدرج في خانة اللقطاء.

يصنف الكتاب المقاومة إلى مقاومات، فالمقاومة الإسلامية ومأزقها الانتمائي بين المذهبية والهوية الوطنية والقومية. ويوصمها بالشيعية ويقول ان الفكر الشيعي مدعو إلى الاجتهاد من أجل تأسيس فقه سياسي يصون وحدة المجتمع القومي من أجل أن يطلق قواه في المشروع الوطني الخاص، من دون أن يقع تحت تأثير وضغط المركز الديني، لأنه في صلب الفكر الشيعي ما يلزم ألاَّ يتعاطى مع الشيعة خارج إيران وكأنهم أطراف. ويرى أن مشكلة إيران ليست في هذا المنحى، بل في تظهيرها المقاومات المختلفة كركام هائل من المشاهد ابتعد عما كان معاشاً ليتوارى في التصور. والأميركيون يحاولون جاهدين تجميع الصور المنفصلة والمتصلة بالمشهد الإيراني لتعزيز مقولتهم بخطر تصدير الثورة من إيران وإلحاق حزب الله بها كصورة من ركام الصور الهائلة التي تجمعها، في حين أن الحزب حقق استقلاليته واستجمع حيويته لبنانياً فلم يعد حركة مستقلة لكائن منفصل، أو حركة لم تبلغ مرحلة الفطام.

يحدد المؤلف المقاومة القومية بأنها التي تعمل من أجل وحدة أكثر من قطر أو كيان، فمأزقها الاستراتيجي يقع بين النظرية والواقع، لأن معظم الحركات تتجسد في سلطة ونظام وكيان مما يعدمها البعد القومي. فالحركة القومية في مصر تقهقرت لداخل حدودها واكتفت بمظهرها الصوري كحاضنة لجامعة عربية لم يعد لها أثر في الدور والفعالية. أما في العراق فقد تشخصنت قوميته وسلطته ودخل في دوامة حروب متكررة كان من نتيجتها فشل التنمية وإفراغ الحزب من دوره وتغييب المؤسسات المدنية الفاعلة، وشرعنة الإثنيات، ففتت القومية المجتمع بدلاً من أن تكون وعياً لوحدته. وكان نتيجة هذه العوامل كوارث تخطت النظام العراقي والعراق كدولة.

أما في سورية، فقد انكفأت القومية لداخل الوطنية السورية مفضلة الاهتمام بتعميق الوحدة الوطنية والتحديث والتطوير، مترقبة تبدل موازين القوى وتطورات الأوضاع في فلسطين، وما ستؤول إليه المقاومة الوطنية في العراق. لذلك فهي مدعوة إلى إبداع تسوية تاريخية بين الحركات الدينية والقوى الليبرالية والتيارات القومية، فهذه المقاومة تواجه تحدي الاحتلال والتقسيم والحروب الأهلية.

والمقاومة الوطنية الفلسطينية تواجه خطر الانزلاق إلى حرب أهلية نتيجة الخلافات بين التنظيمات حول مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما تواجه خطر التناقض بين المقاومة والسلطة، وخطر التقسيم الفلسطيني بين أراضي 1948، وأراضي السلطة، والمنافي.

أما باقي الحركات القومية فهي محصورة ضمن إطارها القطري أو الكياني، وهي أقرب إلى الخيال والمزايدة منها إلى الواقعية، ومعظمها يهرب إلى فضاءات أخرى للتقرب من الفضاء الأميركي. والحركات القومية خارج الحكم تكتفي بالتبشير وعقد المؤتمرات وإصدار بيانات التضامن كمقاطعة البضائع الأميركية.

إن هذه المقاومات متفاعلة فيما بينها، شاءت ذلك أم أبت، فانتصار أو تراجع أي منها يؤثر سلباً أو إيجاباً في الأخرى. لذا فهي مدعوة إلى بلورة صيغة عملية للمقاومة الوطنية تنطلق نحو مقاومة مدنية عامة ذات بعد قومي وعربي وإنساني. مما يستوجب اتحادها وفق صيغة ديمقراطية على قاعدة وحدة القضية القومية.

بالنسبة لعولمة الفوضى، فقد طرحت سياسة واشنطن مصطلح الحرب الوقائية، فأصبح بإمكانها وفق هذا المفهوم أن تعلن الحرب على أي دولة ساعة تشاء باعتبار أن أمنها يتطلب انتهاك سيادة بعض الدول الأخرى. ولّد هذا الادّعاء الأميركي خطراً داهماً على العالم وفوضى في العلاقات الدولية. فخاضت خطة الصدمة والرعب في أفغانستان والعراق بحجة أن العالم لن يكون آمناً حتى يصبح الشرق الأوسط مكاناً آمناً للديمقراطية. فأصبحت العضلات هي الأدمغة.

الهدف الأميركي من هذه الديمقراطية، كما يرى المؤلف، هو أن أميركا تريد السيطرة على منابع النفط، وضمان الأمن لإسرائيل، وذلك عن طريق زرع الفوضى وإيجاد حالات عدم استقرار، وخض المجتمع العربي بشعارات التغيير والحرية وحقوق الإنسان والأقليات. هذه الخطة تفترض أن المجتمعات تنتظم بشكل بناء بعد الصدمة التي ولدتها الفوضى، وهي لا تأخذ بالاعتبار ردات الفعل السلبية، التي قد تولد مقاومة وصدمة معاكسة. وقد تصبح الفوضى البناءة فوضى للفوضى والتخريب والعنف وإنتاج قواعد بدل «القاعدة» التي لم تستطع السياسة الأميركية لغاية الآن تجفيف مصادر تجنيدها. ولم تعد تخشى من أن يحل إسلاميون متطرفون مكان الحكومات السلطوية، لأن الشرق الأوسط لن يبقى مستقراً على أي حال في هذه الدول.

لقد وضعت الولايات المتحدة العالم كله أمام اختيار صعب: إما نظام عالمي تنفرد بالسيطرة عليه، وإما التسبب بفوضى عالمية، مع العلم أن استخدام القوة أظهر محدودية القوة، وأن اختراع العدو الإسلامي بدلاً من العدو الشيوعي السابق وفق مقولة نهاية التاريخ وصراع الحضارات لن يحقق لأميركا الغاية من استراتيجيتها.

بدأ تنفيذ الاستراتيجية الأميركية في لبنان وسورية خاصة بعد الغزوة الأميركية لأفغانستان والعراق وفشلها في توجيه ضربة عسكرية لكوريا وإيران. فارتدت على سورية ولبنان لتسجل نصراً صورياً. فتمكنت من إصدار القرار 1559 من الأمم المتحدة وفرضت الانسحاب العسكري السوري بموجبه، وما زالت تسرِّب سيناريوهات لتغيير النظام السوري بضربة عسكرية. وكخطوة أولى ركز بوش جهوده بعد الانسحاب السوري على أحد بنود القرار 1559 المتعلق بالانتخابات النيابية، مؤجلاً مسألة تجريد حزب الله من سلاحه لصعوبة تحقيق ذلك، على الرغم من أنه أولوية لأن الحزب يملك صواريخ بعيدة المدى تهدد استقرار تل أبيب.

ويرى المؤلف أن دمشق أخطأت في قراءة المتغيرات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة، وراهنت على الزمن وعلى المعطيات الناشئة لتجاوز الأجندة الأميركية. والفرصة الوحيدة لخروج سورية من أزمتها مع المجتمع الدولي هي في إجراء تغييرات في بنية النظام السوري، وتأكيد توجهه في الإصلاح السياسي والاقتصادي في البلاد. الانسحاب السوري من لبنان شكَّل تحولاً هاماً في الوضع اللبناني، كما أحدث تحولاً أهم في وضع سورية الداخلي، ودورها الإقليمي ومستقبل النظام. فالوجود السوري في لبنان لا يستمد حضوره من الوجود العسكري فحسب، بل من ثوابت تاريخية وجغرافية واقتصادية أيضاً. لقد خسرت سورية بانسحابها من لبنان أوراقاً إقليمية، فلبنان هو الذي أعطى سورية الورقة الفلسطينية، وهو الذي شكّل مركز التقاطع بينها وبين إيران، وقد أفادت كثيرا من ورقة المقاومة في صراعها مع إسرائيل.

إن صورة المرحلة المقبلة لم تتبلور بعد، لكن من المؤكد أن بوش لن يمنح النظام السوري حبال إنقاذ. ومن المفارقات أنه في الوقت الذي يرى فيه المشروع الأميركي المشرق العربي وحدة استراتيجية متصلة، فإن هناك من يعمل من أجل رسم خط أزرق بين لبنان وسورية كما مع إسرائيل. وهناك من يدعو لنشر قوات دولية أو أطلسية على الحدود اللبنانية السورية، وهناك من يسعى لطي صفحة العلاقات المميزة وتبادل السفراء، وهناك من يعمل وهذا هو الأخطر على إقامة جدار من العداء إلى حد العنصرية بين البلدين.

الهجمة الأميركية لا تزال في أوجها، وانسحاب الجيش السوري بالطريقة التي تم بها كان اغتيالاً لآخر صيغة ذات طابع وحدوي. ولبنان وسورية اليوم في مواجهة مع تحدي الديمقراطية.