تشي غيفارا وفيدل كاسترو يغنيان ويرقصان ويتحدثان باللهجة اللبنانية

ثوار كوبا يجتاحون خشبة «مسرح بيال»

TT

إن كان المسرح الغنائي اللبناني قد اعتاد النسائم الرومانسية للرحابنة في أعمالهم القديمة كما الجديدة، فإن هذه المسرحية الغنائية لفريد وماهر الصباغ، التي تقدم، حالياً، بالاشتراك مع «مهرجانات بعلبك الدولية»، تخرج عن المألوف اللبناني، لأنها تجعل مشاهدها حائراً بين معارك حربية لا تتوقف، ورصاص وأصوات قنابل وانفجارات تصم الآذان، ورقص وغناء لا يهدآن.

استحضار حياة تشي غيفارا (عمّار شلق) اليوم، والبزات العسكرية والرشاشات على المسرح، هو أمر لا يبدو بريئاً. فالمشاهد الأولى للثوار الكوبيين، كانت شبيهة إلى حد كبير، بما فعله المتظاهرون في ساحة الحرية، طوال العام الماضي، وتصفيق الحضور عند محطات بعينها، تمجد الاستقلال، كان لافتا ايضاً.

حياة تشي غيفارا منذ انضم إلى فيدل كاسترو(بيار داغر)، ونضالهما معاً لقلب حكم الدكتاتور باتيستا، احتل الجزء الأول من العمل. كلمات باتيستا، بدت فيها إحالات خفية، إلى معركة رئاسة الجمهورية في لبنان. النضال في المكسيك، تحضيراً للنزول على شواطئ كوبا، وانضمام الرجال والنساء والأطفال للثوار، والروح الحماسية، حين تختلط بالأنغام والرقصات اللاتينية، ملبننة قدر الممكن، طرّت الأجواء القتالية، وجعلت من البزات العسكرية مع الرشاشات عدة للرقص والحرب معاً، وبدا المشاهد مندمجاً برضى في مناخات، يود أن لا يتذكرها، لا سيما في لبنان الطالع من المعركة.

ديكور موظف بعناية، على يمين المسرح قناطر يعتليها مكتب رئيس كوبا وإلى اليسار، منزل في طابقه الثاني جزء متحرك، نراه ينفتح وينغلق، وقد جلس فيه غيفارا على مقعد، موثوق اليدين يغني، ويناجي ضميره المتألم. وترك عمق المسرح ليتحول ساحة للتظاهر، أو شاشة خلفية تعرض عليها مشاهد الطبيعة، أو كوبا في الليل، أو مشاهد قصف، وأحيانا، نحن أمام فضاء أبيض ينفتح على السماء.

كان ممتعاً أن ترى تشي غيفارا، هذا الأرجنتيني الهارب إلى أممية ليس لها حدود، وطموح بتخليص العالم من الطغيان، بلحيته وسيجاره يغني ويرقص ويحب، ويطلًق زوجته من اجل عيني اليدا (فيونا فياض)التي تعرّف عليها في ساحة القتال. ومسلي أن ترى فيدل كاسترو، بمشيته المترنحة وجسده الفاره، يلقي أمامك خطبته، ويعطي الأوامر، ويذوب عشقاً في سليا سانشيز (كارمن لبس)، ويلوح برشاشه طرباً.

حتماً لم تكن مهمة إعادة تركيب حياة غيفارا لبنانياً ومسرحياً، بالأمر السهل، وذهب العرض صعوداً ونزولاً، ولم يكن الصوت مضبوطاً دائماً، وبدا العرض طويلاً جداً ( ساعتان ونصف)، لكن جهد اللحاق بأسطورة غيفارا لم يكن بالأمر السهل، وتطويع قصة مليئة بالمثل والقضايا السياسية والأخلاقية، هي مما لا يتناغم كثيراً مع طبيعة المسرح الغنائي الميال للأنس. لكن البراعة كانت في اللعب على القسوة بالنغم، وبكسر حدة الموت بالرقص، وبمتابعة غيفارا لحناً وموسيقى، من المكسيك إلى كوبا ومن هناك إلى بوليفيا حيث كانت الرقصات البوليفية جزءاً من الكوريغرافيا.

في الفصل الثاني كان فيدل كاسترو قد وصل الى سدة الرئاسة في كوبا، وأصبح صديقه غيفارا شخصية ذات سلطة، ووزيرا للاقتصاد وفي حوزته مناصب أخرى، لكنه لا يريد ان يتخلى عن حلمه الأممي في القضاء على الطغيان. ذهابه إلى الكونغو لم يحقق أي هدف، ووصوله إلى بوليفيا كان محفوفاً بالمخاطر، حيث لم تكن حركة شعبية مخلصة كما هي حال الكوبيين. اغتيال غيفارا على المسرح لم يكن موتاً، بل حياة جديدة، اذ ان قرينه الذي كنا نراه باستمرار في سجنه العلوي يغني ويناجي الذات بقي حياً على الخشبة. ما بين جثة غيفارا والأعلام الحمراء التي تظللها، وتوأمه الباقي متحركاً حياً على الخشبة، لم تترك المسرحية فرصة للحزن.

«مستحيل أن يعمل الإنسان ثورة في بلد مبني على الاختلاف أكان عرقياً او عنصرياً او طائفياً، الا اذا كانت هناك رغبة في التغيير، اقوى من الانتماءات، تجر الشعب ليبني وطناً»، بهذه العبارة افتتح غيفارا كلامه، وبه كانت المسرحية تشرف على الانتهاء. حوالي مائة شخص ما بين ممثل وراقص شاركوا في هذا العمل الكبير، الذي اريد له أن يكون ملحمياً، من دون ان يخلو من النكات المغرقة في لبنانيتها، وبعض القفشات، والتعليقات التي تحيل إلى راهن محلي شقي.

سخاء كبير لوضع غيفارا على المسرح في لبنان، والحديث عن الثورة والمثل والقتال من اجل إحقاق الحق، والاستقلال، لكنه، ربما ليس هو النموذج الذي يسعى اليه اللبنانيون اليوم، إذ أن أكثر من سيدة كانت تقول وهي تغادر المكان: «تعبنا من القتال».