اثنان لن أطلقهما: زوجتي والكتابة

TT

لعلي تعرفت على الكتاب قبل أن أدرك معنى وشكل الحروف. بداية كنت أقلد والدي.. أقلب مجلات الحرب الملونة، ومجلة «الأثنين»، ثم تعرفت على مجلة سندباد أول مجلة للأولاد، ولم تكن مجلة فحسب، بل كانت مدرسة يشرف عليها الراحل محمد سعيد العريان رئيس تحريرها والذي كان يكتب لمن يخاطبه، ويعقد معه صداقة، وينشر له صورته وما يكتبه من سطور، بل كان يحثنا على القراءة وتلخيص ما نقرأ شهرياً، العريان كان أحد المؤثرين في أدماني مبكراً على القراءة واقتناء الكتاب. وعرفت فيما بعد، في مكتبة أبي المتواضعة، عناوين الكتب التي فيها كان أهمها سلسلة جرجي زيدان، وكتب المنفلوطي، وجبران خليل جبران.

إلا أن خالي الأديب محمود عبد الوهاب كانت له مكتبة ضخمة، كانت تنقص عند زيارة رجال الأمن لها، كنا نضطر لحرق العديد من كتبها، كونت لي مكتبة تركتها في بيتي الذي نُهب بعد رحيلي من العراق هارباً عام 1980، ثم بدأت أجمع من جديد ما أقتني من كتاب.. عمر مكتبتي الحالية ربع قرن، لم تعد غرفتي تتسع الكتب الجديدة، واقضي جل وقت فراغي فيها، إنها الجزء المحبب من بيتي.

أمي لها كتبها أيضاً.. لعل أهم تلك الكتب ألف ليلة وليلة بطبعتها الصفراء غير المنقحة، إلى جانب كتب السير والبطولات، غير أن جدتي لأمي كانت مولعة بأشعار أمير الشعراء أحمد شوقي، وتعلق صورته على جدران غرفة الضيوف، وتقرأ لي بعضاً من قصائد عنترة، وقيس، من دون أن أدرك ما تقرأه لي هذه الجدة الجميلة، التي أدركت فيما بعد إلى أي مدى كانت تهذب ذائقتي الشعرية.

في مرحلة لاحقة كان خالي يقود لي حركة الكتاب بتوفير آخر الإصدارات في الرواية والقصة والمسرحية، فتعرفت على مجلة الآداب التي كنت أحرص على حملها بين كتبي المدرسية حتى يقال عني إنني (مثقف). وبحكم المعرفة الاجتماعية والعلاقات مع خالي محمود عبد الوهاب تعرفت على الكثير من أدباء ذلك الجيل المبدع مثل بدر شاكر السياب، محمود البريكاني، رزوق فرج رزوق، زكي الجابر، سعدي يوسف.. وغيرهم من أدباء البصرة الأعلام.

حينما تعلمت القراءة، واجتزت مرحلة الابتدائية الأولى ودخلت الصف السادس كنت قد بدأت أقلد الكبار من أهلي في ممارسة القراءة.

المنفلوطي أولاً ورومانسية الحزن، جبران وأسئلة الحيرة، وجرجي زيدان والروايات التاريخية، هؤلاء كانوا في متناول يدي ثم بدأت أنمو سريعاً: محمد عبد الحليم عبد الله.. ومن ثم نجيب محفوظ، والعقاد، وطه حسين، ولويس عوض، والقط. وسرعان ما كانت أمامي روائع الأدب العالمي، أمثال غوركي، وتشيخوف، وتولستوي، وشكسبير، وفي فترة لاحقة سيمون دي بفوار، وسارتر، وهمنغواي، وكولن ولسن، وكثير من كتاب الأدب الإنجليزي، والروس، والفرنسيين، هكذا وجدت نفسي مدمناً على القراءة وقد أدركتني مهنة الأدب والفن سريعاً، وأغرقني تيار لم استطع حتى الآن التخلص منه، بل واصلت أدماني مع ماركيز، البيركامو، غوغول، صمد بهرنجي، ابسن، ساغان، أورهان باموق، ولوركا، وغيرهم من شعراء، وأدباء، وقصاصين، وروائيين، ونقاد، ومسرحيين. ولعل أول عمل أقوم به عند سفري هو اختيار الكتاب الذي يصحبني، وحسب المرحلة التي أمر بها في فترة ما كان كامي، وأخرى مع كولن ولسن، وأحياناً مع المقتل الحسيني، والآن مع ماركيز... وهكذا أدركتني مهنة الأدب والفن مبكراً جداً.. نشرت في سن السابعة في مجلة الأولاد «السندباد» وفي سن الرابعة عشرة كنت انشر في جريدة «الثغر» المحلية التي كانت تصدر في البصرة، وكان يرعاني صحافي هو صديق العائلة اسمه محسن البصري، ومن ثم نشرت في الصحف والمجلات العراقية والعربية، وصدر لي حتى الآن حوالي 38 إصداراً بين المسرح والقص والرواية وبعض الدراسات المسرحية والأدبية.

معظم أو جميع هذه الإصدارات نفدت من المكاتب والناشر، وأعيد طباعة بعضها، وفي طريق إعادة كتب أخرى خاصة تلك التي تتعلق بالمسرح في الإمارات حيث كنت أول من أصدر كتاباً عن المسرح ثم أصدرت خمسة كتب أخرى.

ما زلت أعشق الكتابة بالقلم، ابغض التحول إلى الحاسب الآلي، لا أجد ألفة معه ولا أحبه، أعشق قلمي وأوراقي.. هناك علاقة تتعدى الروح إلى حس جسدي بالورقة والقلم، أعلم أن الحاسب أسرع، وأكثر فاعلية لكني ما زلت أعشق الورق.. وهو صديقي وحامل همي وأسراري وفرحي وحزني، أثنان لن أطلقهما زوجتي وقلمي.

نحن في البصرة نرضع الحب والفن من أثداء أمهاتنا، حتى لنجد تحت كل نخلة شاعرا، ومع كل شاعر نخلة، وعلى أرصفة المدينة يرتل الشعراء قصائدهم، لي ذكريات مع القلم والكتابة، وأجيال من الأدباء والأحداث. كم أتمنى أن أعيد صياغة تلك الأيام كتابة، إلا أني مثل أي رجل عصري محكوم بالعمل من أجل لقمة الخبز، لا أملك وقتاً كافياً لكتابة كل تلك السنوات وما فيها من احداث وصور ورجال ونساء، جغرافية المدينة، جسورها، أنهارها، الإنسان، الإنسان الذي كان على ترابها، عجلة العمل اليومي تصهرني لكني أسرق بعض الوقت لأمارس حياتي مع معشوقتي الورقة والوسيلة التي لا أعرف غيرها.. القلم..