شباب المغرب ينتفضون غنائيا لكسر تابوهات المجتمع التقليدي

موسيقى الآخرين بطاقة ولوج إلى كرامة الحياة اليومية

TT

* الأغنيات حين تصبح سجلاً للهزائم والانتصارات

* من الشاعر والثائر هوزي مارتي الذي أطلق قصيدته غوانتاناميرو منذ أكثر من مائة وعشرين سنة، وحلّقت بأجنحتها في أرجاء الدنيا تغرد في فضاء المعذبين، وصولاً إلى الشاب المغربي «بيغ 2» الذي يثير ضجة في المغرب، هذه الأيام، بسبب أغنياته الجريئة والفضائحية، لعبت الموسيقى برفقة القصيدة دوراً مثيراً وحيوياً. فالأغنيات تسافر كما البشر، وفي سجلاتها حكايات انتصارات وهزائم، وفي معاركها التي تخوضها يومياً، مؤشرات ضعف وقوة، ودلالات على رخاوة عضلات شعب لا يعرف غير الاقتباس، مقابل عضلات مفتولة لشعب آخر، يناور ويصارع حتى يسجل انتصارات ولو في جولات محدودة. معركتان قد تشكلان نموذجين يستحقان القراءة: في المغرب حيث الهوية صنو الضياع، والأغاني بموسيقاها المستوردة، مكان للبحث عن الذات التائهة، وثمة نموذج أبهى وأحلى في كوبا حيث يقاتل الثوار بالقصائد وينتصرون من قبورهم بأناشيدهم والأغنيات.

* يثير حاليا مغنى الراب المغربي «بيغ 2» ضجة بألبومه الجديد الذي يحمل عنوان «مغاربة تال الموت»، أي «مغاربة حتى النخاع». ويعود هذا السجال لاستعمال توفيق حازب، وهذا اسمه الحقيقي، الذي يبلغ 22 سنة، معجما يعتبر خادشا للحياء، لأنه يوظف الشتائم والكلمات النابية في أغانيه التي تستلهم أجواء الحياة الهامشية التي يغرق فيها الشباب المغربي في الأحياء الشعبية المختنقة بالبطالة والعنف والمخدرات. لكن ماذا تخفي شجرة «بيغ 2»؟ وفي أي سياق ينخرط هذا النوع من الموسيقى في المغرب؟.

توفيق حازب أو «بيغ 2»، الذي يثير سجالا حارا، هذه الأيام، في المغرب، بسبب ألبومه «مغاربة تال الموت»، وما فيه من ألفاظ اعتبرت خادشة للحياء، هو من مواليد حي سباتة الشعبي، بالدار البيضاء، يدرس الحقوق بمدينة المحمدية. وهو حين يتحدث عن دخوله عالم الراب يقول: «نشأت في وسط يحب الموسيقى، إذ كانت والدتي من عاشقات البيتلز، ويتني هوستون، ناس الغيوان، عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش. أما أنا فقد كنت أستمع كثيرا للأغاني الإنجليزية، وأترجم منها تلك التي تعجبني، خصوصا أغاني السود الأميركية مثل آل غرين، أريتا فرنكلين، مايلس دايفس. وفي سن 15 سنة، بدأت أحاول كتابة بعض الأغاني، وتعلمت رقص الهيب هوب وتنشيط الحفلات مع بعض الأصدقاء». «اللي بغا بلادي نبغيه، اللي كرها الدار ليه»، يغني «بيغ 2» الذي أسس فرقا عديدة آخرها «مافيا C» التي ذاع صيتها في مدينة الدار البيضاء. هذا «الحس الوطني» هو الذي يغذي ثورة «بيغ 2» على النفاق الاجتماعي والتابوهات التي تكبل المجتمع التقليدي، فيصرخ في وجه الفقر والرشوة والدعارة والسجن، أي كل الدمامل التي تشوه وجه بلد شاب في عنفوان الحياة. لذلك فهو يعتبر توظيف معجم الشارع، فضح لشيزوفرينيا الثقافة الموسيقية المغربية التي تحلق في سابع السماوات، بعيدا عن طمي الواقع وقذارته. وهذه وجهة نظر نجدها في أسلوبية الراب الأميركي.

* انبعاث موجات موسيقية من قلب اليأس

* هذا المسار ليس مميزا فقط لصاحب «مغاربة حتى الموت»، بل يمس أساسا انبعاث هذه الظاهرة الموسيقية من رماد مغرب، ينهض ببطء من سنوات رصاصه. فكما هو معروف أن ثقافة الهيب هوب، في أميركا، استلهمت الرقص الإفريقي، وموسيقى السود وأغاني العبيد في الحقول والكنائس، والجاز وبلوز الثلاثينات، والإيقاعات الجمايكية التي فرضت نفسها بالبنيات المستقلة sound systems ، تشعبت غصونها الإبداعية إلى مجموعة من الفنون الغرافيكية المهمة كالخربشات TAG، والغرافيتي، تلك الرسوم المميزة التي استولت على جدران الأحياء الهامشية وقاطرات المترو، وتعاضدت مع مكونات تزيينية متنوعة قد تكون آتية من أفلام الكاراتيه أو الرسوم المتحركة. هذه الثقافة الموسيقية رضع حليبها بعض شباب الأحياء الشعبية المغربية منذ الثمانينات، وهكذا تسللت ثقافة الهيب هوب والراب إلى العديد من المدن، حيث انطلقت الشرارة الأولى من الدار البيضاء إلى طنجة مرورا بسلا، مكناس، قنيطرة أو بني ملال، برقصات السمورف والبريك دانس وانتهت بالراب. وقد كان الدافع الاجتماعي يتمثل في بحث هؤلاء الشباب عن أشكال تعبيرية جديدة يمررون من خلالها قلقهم، إحباطهم وآمالهم، بعد أن سدت في وجوههم أبواب الشغل والرخاء الاجتماعي والثقافي. وفي هذا المستوى، حدثت نقلة سوسيولوجية مهمة تجلت في شباب من مختلف الشرائح الاجتماعية وجد نفسه بدبلومات في الآداب والعلوم واللغات الأجنبية لا تساوي شيئا في سوق البشرية الجديدة. فبدأ جنون الهجرة إلى الضفة الأخرى أو الاعتماد على الموسيقى للخروج من الأزمة الدائمة التي تعيش فيها بلاد لم توفر لشبابها بطاقات الولوج إلى كرامة الحياة اليومية. وهكذا بدأت فرق مغربية في الظهور والحديث إلى أقرانها بلغة يفهمها الجميع، وهي الدارجة المغربية التي كانت لا تجد مكانها تحت الشمس، كما تغني بالفرنسية والإنجليزية. وكانت البداية في الدار البيضاء من الحي المحمدي الذي أخرج إلى النور أشهر فرقة في تاريخ الموسيقى الشعبية بالمغرب: ناس الغيوان. هذه الفرقة الأسطورية التي تشكل أغانيها المرجعية الأساس لكل هذه الفرق الجديدة. ثم ظهر أيضا «عود الليل»، «هاش كاين» من مدينة مكناس، و«فناير» من مدينة مراكش و«ك ليبر»، و«مسلم» من طنجة، وغيرهم...

* الظاهرة هو المجتمع وليس الفن

* يعتبر «عود الليل»، أي حصان الليل، من أغرب الظواهر في عالم الراب المغربي، إذ يختفي وراء هذا الاسم مغن شاب من مواليد الدار البيضاء، يدرس المعلوماتية في باريس. وقد اشتهرت أغانيه على الانترنت مثل «راو داو»، «مسعود» أو سامية الغالية. يقول حصان الليل: «في الحقيقة، لست أنا الظاهرة، بل المجتمع الذي يريد بأي ثمن التعبير عما يمور بأحشائه، فهو لا يجد نفسه في الأنواع الغنائية السائدة في بلادنا. فالأفلام الناطقة بالعربية الكلاسيكية والمسلسلات المكسيكية المدبلجة، مثلا، لا نجد فيها أنفسنا بما أنها تتكلم لغة غير لغتنا. لذلك فأنا أغني بالدارجة التي نتنفس بها الهواء، ضاربا بالتابوهات عرض الحائط. وربما هذا هو سبب شهرتي».

إن هذا المغني المقنع، الذي يغني الجنس، والتفاوت الطبقي والرشوة السياسية، لا يريد أن يحترف الغناء، بل الهندسة التي يتخصص فيها، لكنه كجيله من الشباب المغاربة يحلم بمشروع، لحمته المواطنة والوعي وتحسس الأخطار الفكرية والرمزية التي تهدد عنفوان مجتمع يطمح إلى معانقة نجوم مستقبل مغاير.

ونجد أيضا فرقة « فناير»، أي المصابيح التقليدية، المراكشية التي أصدرت ألبومين إلى حد الآن هما «فناير» و«يروشاب». وقد اشتهرت الفرقة بأغنيتها الساخرة «يا لمشيشة»، أو «أيتها القطة الصغيرة»، التي تنتقد فيها بعض الظواهر التي أخذت تنخر المجتمع المغربي كإدمان الشباب على الشيشة المخلوطة بالمخدرات، والدعارة. وتقول الأغنية: «علاش مابغتيش يا لمشيشة، جبت ليك كل ما حبيتي الشراب والشيشا/باركا عليك من ماكلة التشيشا، واش نت مشيشة ولا هيشا»، أي أيتها القطة الصغيرة، لقد أحضرت لك كل ما تشتهين من خمور وشيشة، فلم لم تأت؟ توقفي عن أكل الحساء، هل أنت قطة صغيرة أم وحش كاسر؟ وعندما يسأل أعضاء «فناير» إن كانوا يقلدون الراب الأميركي أو الفرنسي، يجيبون بأنهم يعجنون الإيقاعات المغربية وروح النكتة المراكشية بالموسيقى العالمية من دون عقد نقص. وهذا رأي يتقاسمه معظم موسيقيي الجيل الجديد في المغرب سواء من يغني الراب أو الأنواع الموسيقية الأخرى. كما أن اختيار الدارجة المغربية، الفرنسية أو الإنجليزية يفضح الصورة الكارثية التي كرستها المدرسة عن لغة الضاد في رؤوس المتعلمين الصغار باعتبارها لغة محنطة لا تتماشى مع دينامية الحياة العصرية. وهذا الخطاب يسود بقوة في المجتمع المغربي، منذ الاستقلال، وتروج له النخب الفرنكوفونية التي تتحكم في دواليب الاقتصاد والسياسة والتربية والإعلام.

أما فرقة «آش كاين» المكناسية فأصدرت ألبومين، وكان مؤسساها قد التقيا في مدينة مونبوليي الفرنسية أثناء متابعتهما لدارستهما الجامعية وهما الـ«ديدجي» خالد وحاتم، عضو فرقة DOGS التي ذاع صيتها آنذاك. ثم بعد عودتهما للمغرب أطلقا الفرقة مع أصدقاء آخرين، اعتمادا على تصور فني ثلاثي الأبعاد يتمثل في موسيقى الراب، الموسيقى الإلكترونية، والموسيقى المغربية التراثية. وذاع صيت الفرقة، انطلاقا من سنة 2003، بعد أن شاركت عام 2001 في مهرجان شارع الموسيقيين الذي لعب دورا استراتيجيا في التعريف بضروب الموسيقى الجديدة في المغرب، ونالت الجائزة الأولى. وترفض الفرقة أن تلصق بها صفة الاحتجاج السياسي، لأن «الراب قبل كل شيء موسيقى، المحتوى مهم، لكن لا ينبغي التضحية بالشكل». وقد غنت فرقة «آش كاين» انسداد الأفق أمام الشباب مازجة الراب بموسيقى عيساوة التقليدية أو الملحون اللذين تعرف بهما مكناسة الزيتون، كما كان يسميها القدامى.

وأخيرا، بعيدا عن الضجة التي أثارها ألبوم «مغاربة حتى الموت»، يبقى الراب جنسا موسيقيا يحاول الإجابة عن الأسئلة الحارقة التي تؤرق الشباب المغربي اليوم، غير أنها أسئلة في صلب دوامة العولمة التي جعلت من العالم قرية صغيرة. فالراب يستند، في المغرب، إلى قيم المواطنة، والالتزام الاجتماعي بالنص والموسيقى والرقص خارج الأحزاب السياسية التي يسيطر عليها عجزة استلذوا السلطة وفشلوا في استمالة ممثلي مستقبل البلاد. لذلك فالعديد من هذه الفرق تدافع فنيا عن هويتها المغربية من خلال مقاربة موسيقية نوعية بدأت تفتح لها أبواب الغرب، كما أنها توظف فنها، في مساعدة أقرانها لتنبيههم بأخطار الإدمان على المخدرات، مخاطر الإيدز، أو الأمية، بالإضافة إلى أن هذه الأغاني والعروض تجلب اليوم آلاف الشباب الذين لا تعني لهم الثقافة الموسيقية الكلاسيكية شيئا، خصوصا وأنهم فتحوا أعينهم منذ نعومة أظافرهم على القنوات الفضائية الغربية، والانترنت، والهواتف المحمولة، أي على عالم تلعب فيه التقنيات الجديدة دور المعلم الذي يأخذ مريده من يده بعيدا عن الكتب الصفراء، ولغة الضاد الممجوجة ليلقي به في عراء عولمة بلا ضفاف. فإلى أين نحن سائرون؟