«غوانتاناميرو» أنجبت «غوانتانامو» والتمرد هو الجد الأكبر

أناشيد الحرية والثورة بين أميركا وكوبا

TT

من «غوانتاناميرو» إلى «غوانتانامو» أكثر من مائة سنة، كتب خلالها تاريخ طويل من المقاومة الإنسانية للظلم والطغيان. أغنيتان تختلفان بقدر ما تتشابهان، وتلتقيان عند ذلك الشاطئ الرومانسي الهادئ الذي شهد موت الثائر الكوبي هوزي مارتي. وها هو يشهد حكاية 500 أسير، في واحد من أشهر سجون العصر الحديث وأسوأها سمعة على الإطلاق. قرن ونيف من سفر القصائد والأغاني المحملة بالحكايات، ليست بالتأكيد، بالشيء القليل.

تحتفل كوبا، خلال هذا الشهر، بذكرى نزول ثوار كوبيين جاءوا من اميركا، سنة 1896، لتحرير بلادهم من الاحتلال الاسباني، وعلى رأسهم هوزي مارتي، الذي اغتيل بعد نزوله إلى الساحل. لكن الاسبان انهزموا في تلك الواقعة، واصبح مارتي، «الثائر الشاعر»، هو ابو استقلال كوبا.

ورغم ان مارتي بدأ ثورته من نيويورك، وشجعه الاميركيون (كراهية في الاسبان)، الإ انه رفض قبول اي مساعدة منهم، وسمى اميركا «جالوت» (اشارة الى العملاق الفاسد في سفر صمويل في العهد القديم).

لكن الاميركيين استغلوا هزيمة الاسبان، حينها، وارسلوا قوات المارينز ليغزوا كوبا، وليستبدلوا احتلالا باحتلال، وعندما قاومهم الكوبيون، ومنعوهم من احتلال الجزيرة كلها، اكتفوا بالقاعدة العسكرية في «غوانتانامو». وحتى هذه استأجرها لهم توماس بالما، الاميركي الذي نصبوه رئيسا للجمهورية. لهذا فإن الكوبيين يعتبرون، حتى اليوم، «غوانتانامو» ارضا محتلة.

وقبل ان تشتهر «غوانتانامو» بأنها مكان القاعدة العسكرية الاميركية التي يعتقل فيها خمسمائة شخص تقريبا، عرفت بشاطئها الابيض، وخليجها الهادئ، وبأنها المكان الذي نزل فيه كريستوفر كولمبس عندما اكتشف المنطقة قبل خمسمائة سنة تقريبا.

«غوانتاناميرو» والثائر الشاعر مارتي

وعرفت غوانتانامو بأنها موطن «غوانتاناميرو» ـ كلمة اسبانية تعني «بنت غوانتانامو» ـ وهي اسم قصيدة كتبها «الثائر الشاعر» مارتي، وهو يسير على شاطئ غوانتانامو (يقع البلاج الآن داخل القاعدة العسكرية الاميركية)، بعد أن رأى فتاة كوبية جميلة يقال انها كانت، مصدر وحي قصيدته. لكن هذه القصيدة ذات النزعة الوطنية اكثر مما هي عاطفية، اصبحت اشهر اغنية كوبية، منذ ذلك الوقت وحتى اليوم. وتقول بعض مقاطعها:«يا بنت غوانتانامو. انا رجل صادق، جئت من حيث ينمو شجر جوز الهند. اريد، قبل ان اموت، ان اقول هذا النشيد الروحي، نشيدا اخضر فاتحا، نشيدا احمر مشتعلا. نشيد ظبية مجروحة، تبحث عن ملجأ في الجبال. زرعت انا وردة بيضاء في يناير، وزرعت اخرى في يوليو، اهديهما لصديقة مخلصة فتحت قلبها لي، يا بنت غوانتانامو».

وصول فيدل كاسترو بعد خمسين سنة

بعد خمسين سنة من ثورة مارتي، قاد فيدل كاسترو، ثورة اخرى، ضد حكومة كوبية اقطاعية حليفة لأميركا، هذه المرة. سار الرجل على خطى مارتي، وعندما انتصر الثوار، دخلوا هافانا العاصمة، ومشوا في شوارعها يرددون اغنية «غوانتاناميرو»، ولا بد ان الكوبيين سيرددون، هذا الشهر، نفس الأغنية، وهم يحتفلون بذكرى الثورة التي قادها صاحب القصيدة مارتي.

طرأت على الاغنية/القصيدة، خلال عمر زاد على المائة سنة، تغيرات كثيرة، وهي تنتقل من كوبا الى اميركا، ثم من اميركا (بفضل قوة الثقافة الاميركية) الى دول اخرى حول العالم. فقد غنتها المغنية الأميركية الليبرالية، جين باييز، واضافت اليها مقطعا يقول: «اريد ان اتشارك الحظ مع فقراء الارض. يمنحني النهر المنحدر من الجبل نحو البحر سعادة اكثر من البحر نفسه». وقد جاءت باييز، مع آخرين، الى واشنطن الصيف الماضي للاشتراك في مظاهرة ضد حرب العراق، وغنوا قصيدة «غوانتاناميرو»، ولم يخفوا صلة الاغنية بالقاعدة العسكرية الاميركية في «غوانتانامو»، وبما يجرى فيها.

أغاني الحرية مقابل أناشيد العذاب

أنشدت باييز، كما غيرها، أغاني الثورة الكوبية، وأغاني الحرية الاميركية، في وقت واحد. ورغم الشبه بين الاثنين، هناك تناقض واضح سببه علاقة حب وكراهية عمرها اكثر من 200 سنة بين البلدين. فقد رفضت اميركا، منذ استقلالها، وجود جزيرة صغيرة معادية على مسافة 150 كلم منها. وانعكست علاقة الجوار والتناقض بين اميركا الرأسمالية العملاقة، وكوبا الصغيرة الثائرة، على اغاني البلدين الوطنية. ففي جانب، ينشد الاميركيون اغاني الحرية والاستقلال والجمال، وفي الجانب الآخر، ينشد الكوبيون العذاب والتمرد والثورة. فخلال الصيف الماضي، مثلاً كان ثمة مظاهرة ضد حرب العراق من جانب، وتظاهر كذلك مؤيدون للحرب في جانب آخر، ورفعوا الاعلام الاميركية، وغنوا اغنية «اميركا الجميلة»، وكأنهم يتهمون المشتركين في المظاهرة الرئيسية بخيانة الوطن. «أميركا الجميلة» هي اشهر اغنية وطنية اميركية، وتقول بعض مقاطعها: «ايتها الجميلة. ذات السماوات الواسعة. وامواج القمح الصفراء. وعظمة الجبال البنفسجية. فوق سهول البرتقال. اميركا، اميركا، ليصب الله نعمته عليك. وليزين خيرك بتاج الاخوة، من محيط الى محيط».

أغاني كوبية تحصد الحب الأميركي

ورغم التناقض السياسي والاقتصادي بين كوبا واميركا، وجدت اغاني العذاب والثورة الكوبية حقلا خصبا في اميركا، في الصحف والتلفزيونات والاذاعات والمسارح والمهرجانات، كما وجدت جمهورا يساوي سكان كوبا عشرين مرة، ووجدت الثوريين، رغم قلة عددهم. ووجدت حب الاميركيين لكل ما هو غريب ومثير.

صحيح أن قصيدة «غوانتاناميرو» كتبت بالاسبانية، لكن فنانين اميركيين غنوها بالانجليزية، وبأساليب مختلفة، فقد سمعناها من بيتر سيغر، مغني الروك آند روك، ومن تيتو بيونتي، مغني الجاز، وغناها ويسليف جين، على طريقة «الهيب هوب»، ثم انتقلت من اميركا الى اوروبا، حيث غناها بالفرنسية جو داسين.

لكن سيليا كروز، وهي مغنية كوبية هاجرت الى اميركا، تفوقت على غيرها لأنها غنتها في كوبا بالاسبانية، وفي اميركا بالانجليزية. واصبحت كروز ملكة اغاني «الصلصة»، اشارة الى اغاني من كوبا ومن جزر البحر الكاريبي انتقلت الى اميركا، واثارت اعجاب الاميركيين، وحولوها الى فيديو كليب، وافلام سينمائية، ومسلسلات تلفزيونية.

سيليا كروز المعشوقة السوداء

اشتهرت اغاني كروز، في اميركا لأنها كوبية، أولاً وسوداء ثانياً، خلطت بين مرح السود وتمرد اللاتينيين، وغنت «الحياة كرنفال» التي تختلط فيها مشاعر اليأس بالأمل، فهي تقول: «تقدر على ان تسير على الماء. تقدر على ان تغرق في الرمل. تقدر على ان تطير فوق الجبل. اهرب، اهرب من السأم. الحياة كرنفال، الحياة كرنفال».

اقام متحف التاريخ الطبيعي في واشنطن، مؤخرا، معرضاً لتخليد ذكرى «ملكة الصلصة» التي توفيت قبل ثلاث سنوات، ووصفها بأنها واحدة من اشهر مغنيات كوبا خلال القرن العشرين، وأهم مغنية جمعت بين الفنين الاميركي والكوبي، رغم الاختلافات السياسية والاقتصادية والثقافية. ونقل جثمانها، قبل دفنه، الى مدن اميركية، فيها جاليات كبيرة من كوبا، ليلقوا عليها النظرة الأخيرة، ثم دفنت في نيويورك.

«عبد الله» وسفر الخيال إلى السودان

دفن جثمان «ملكة الصلصة» الكوبية في نيويورك، في مكان ليس ببعيد من المنزل الذي عاش فيه، قبل اكثر من مائة وعشرين سنة، هوزي مارتي، «الثائر الشاعر»، قبل عودته الى كوبا، كقائد للثورة ضد الاحتلال الاسباني. وهكذا برهن الاثنان على ان ما يربط اميركا وكوبا هو اكثر مما يفرق بينهما، وزادت اهمية ذلك لأن الاثنين خلطا ثلاث ثقافات رئيسية: اميركية ولاتينية (من اميركا الجنوبية) وافريقية.

رغم ان «غوانتاناميرو» اصبحت اشهر ما كتب مارتي، ورغم انه ركز على نضال كوبا ضد القوة الاميركية، فهو لم ينس افريقيا، علماً ان دمه خالٍ من اي قطرة سوداء. فقد كتب، عندما كان في كوبا وعمره ست عشرة سنة، قصيدة «عبد الله»، عن زعيم مسلم وسط النوبة (قبيلة في شمال السودان وجنوب مصر)، تمرد على الاحتلال الاجنبي.

قال مارتي، في وقت لاحق، انه احس بظلمين في كوبا: ظلم الاحتلال الاسباني للبيض والسود، وظلم أهل البيت للسود (كانوا رقيقا في ذلك الوقت). وقال انه، لهذا، نقل خياله الى السودان. كتب مارتي، في مقطع من مقاطع «عبد الله»: «دافع عبد الله بدمه عن النوبة، دافع ضد الاجانب الظالمين، لتعرفي ذلك يا امي. لأن حب الوطن ليس اقل من حب الام».

«غوانتانامو» بعد مائة وعشرين سنة

ودار التاريخ، مؤخرا، دورة كاملة. وبعد اكثر من مائة وعشرين سنة منذ ان كتب مارتي قصيدة «غوانتاناميرو»، كتبت وغنت فرقة «كومباشونيت» الاميركية اغنية «غوانتانامو» عن سجناء القاعدة العسكرية الاميركية هناك، تقول بعض مقاطعها: «اجلس في زنزانتي، اجلس في جهنمي، نزعوا مني اقوالي، لكنني لم اقل لهم اي شيء. انا سجين غوانتانامو، اشاهد الاسابيع تمر، اضيع وقتي. ذهبت الى كابول بحثا عن زوجتي وابننا، اعتقلني جنود وقيدوني، ولم يقولوا لي ماذا فعلت. تربيت في افغانستان، وكنت دائما رجلا مسالما. لم اكن مع طالبان، لماذا لا يفهمون؟ اريد ان اصلي، لكني نسيت كيف اصلي، قل لهؤلاء اللصوص ان يتركوني، وساعدني لاعود الى زوجتي وابننا. انا سجين غوانتانامو».